هل الحضارة الغربية آيلة للسقوط؟ زينا العاني مغربل

هل الحضارة الغربية آيلة للسقوط؟ ‫

الولايات المتحدة الأمريكية | سؤال تناولته مجلة ذا ساينتست في تقرير أعدته لورا سبيني. فقد بدأ العلماء والمؤرخون ورجال السياسة على حد سواء يحذرون من أن الحضارة الغربية بلغت في اللحظة الراهنة مفترقاً حرجاً ولا سيما أن دورات من التفاوت الاقتصادي واستخدام الموارد بلغت نقطة انقلاب، لطالما دفعت بكثير من الحضارات السابقة نحو الاضطراب السياسي والحرب، ومن ثم الانهيار تماماً. إلا أن معظم الناس مستمرون في حياتهم سعداء وغير مدركين أن الانهيار ربما يكون وشيكاً. فهل أبناء الغرب في غفلة عن الخطر المحدق بهم؟ والأهم من ذلك هل يحمل العلم أفكاراً حول حقيقة ما يحدث الآن وما سيحدث لاحقاً وما بالإمكان فعله لتغيير مسار الأمور؟ فكرة تراجع القوة والنفوذ الغربي تدريجياً وتمهيداً لهوي مباغت فكرة متداولة منذ زمن، لكنها اكتسبت طابعاً طارئاً إثر أحدث المستجدات السياسية. واستخدام العلم للتنبؤ بالمستقبل ليس أمراً سهلاً لأسباب كثيرة، منها صعوبة تعريف «الانهيار» و«الحضارة الغربية». فنحن نتحدث عن تداعي إمبراطورية الروم في منتصف الألفية الأولى على سبيل المثال، على الرغم من توافر الأدلة على استمرار هذه الإمبراطورية بشكل أو بآخر عدة قرون بعد ذلك، وبقاء أثرها حتى يومنا هذا. كذلك يمكن جعل نهاية مصر القديمة تغيراً في موازين القوى أكثر من كونها حدثاً كارثياً أودى بحياة الجميع. فحين نتحدث عن «انهيار» هل نعني فقدان البشر لكل شيء وعودتهم إلى القرون الوسطى؟ أم أنه سيكون اضطراباً اجتماعياً وسياسياً يستمر لمدة زمنية ما؟ كذلك يبدو مفهوم الحضارة الغربية مبهماً بعض الشيء، إذ يقصد به عموماً أجزاء من العالم تسودها ثقافة تعود أصولها إلى أوروبا الغربية، بما في ذلك شمال أمريكا وأستراليا ونيوزيلاندا. لكن الحدود تلتبس وراء ذلك. ثمة حضارات أخرى منها الصين أقيمت على مجموعة أخرى من العادات الثقافية، لكن رسم حدود هذه الثقافة أمر معقد في عصر العولمة. على الرغم من هذه الصعوبات، إلا أن بعض العلماء والمؤرخين يعكفون على تحليل نهوض وسقوط الحضارات القديمة بحثاً عن أنماط ربما تنبهنا إلى ما سيحدث. نهاية الغرب هل من أدلة على أن الغرب شارف على النهاية؟ يرى بيتر تورشين Peter Turchin، خبير الأنثروبولوجيا التطورية في جامعة كونيكتكت مؤشرات مثيرة للقلق. فقد كان تورشين عالم أحياء سكانية يدرس دورات ازدهار وتراجع الحيوانات المفترسة والفرائس حين أدرك أنه يمكن تطبيق المعادلات التي يستخدمها لتوصيف صعود الحضارات القديمة واندثارها. من ثم بدأ في نهاية التسعينيات تطبيق هذه المعادلات على البيانات التاريخية بحثاً عن أنماط تربط عوامل اجتماعية مثل التفاوت في الثروة والصحة بالاضطراب السياسي. فلاحظ دورتين متكررتين مرتبطتين بفترات اضطراب منتظمة محددة لعصرها. إحدى هاتين الدورتين هي دورة «قرنية» تدوم قرنين أو ثلاثة، تبدأ بمجتمع متساوٍ عموماً. ولكن مع النمو السكاني يبدأ عرض اليد العاملة بالتفوق على الطلب حتى تصبح العمالة رخيصة، فتتكون نخبة ثرية بينما تتهاوى معايير عيش العمال. كلما ازداد التباين بين فئات المجتمع، دنت الدورة من مرحلة أكثر تدميراً يساهم فيها بؤس الطبقات الدنيا وصراع أبناء طبقة النخبة في الاضطراب الاجتماعي ومن ثم الانهيار. عندئذ تبدأ الدورة الثانية الأقصر التي تستمر خمسين عاماً، وتتألف من جيلين أحدهما ينعم بالسلام والآخر يعيش في اضطراب. وقد لاحظ تورشين عند دراسة التاريخ الأمريكي ذروات اضطراب عام 1870 و1920 و1930م، بل الأسوأ من ذلك أنه يتنبأ بأن نهاية دورة الخمسين عاماً التالية التي يتوقعها عام 2020 ستصادف المرحلة المضطربة من الدورة الأطول، ما سيسفر عن فترة اضطراب سياسي قريبة على الأقل مما حدث في عام 1970م في أشد لحظات حركة الحقوق المدنية والمظاهرات المناهضة لحرب الفيتنام في الولايات المتحدة. وفي هذا التنبؤ أصداء لسيناريو آخر رسمه مؤرخان هاويان عام 1997 هما ويليام ستراوس William Strauss ونيل هاوي Neil Howe في كتابهما «The Fourth Turning: An American Prophecy» (الانعطاف الرابع: نبوءة أمريكية)، إذ زعما أن الولايات المتحدة ستلج في نحو عام 2008 مرحلة أزمة ستبلغ ذروتها في العشرينيات من القرن الراهن، وهو زعم يقال إنه تـرك أثراً بالغاً في نفس ستيف بانون، كبير المستشارين الإستراتيجيين السابق لدى دونالد ترامب. الجدير بالذكر أن تورشين أعرب عن تصوره في 2010 قبل انتخاب الرئيس الأمريكي الراهن دونالد ترامب وما صاحب انتخابه من تعارك سياسي، لكنه لفت منذ ذلك الحين إلى أن المعدلات الراهنة من الانقسام السياسي والتفاوت الاقتصادي في الولايات المتحدة هي دلائل على بلوغها مرحلة الانحدار من الدورة. وأن في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأزمة كتالونية في إسبانيا ما يوحي بأن الولايات المتحدة ليست المنطقة الوحيدة المتأزمة في الغرب. ولا يملك تورشين إجابة لما سيحدث بعد ذلك، فنموذجه يعمل على مستوى قوى مؤثرة على نطاق واسع ولا يستطيع تحديد الحدث الذي قد يحول حالة الضيق إلى حالة اضطراب أو مدى تدهور الأحوال بعد ذلك. كيف يتحول الاضطراب أحياناً إلى انهيار؟ ولماذا؟ أسئلة تشغل عالم الرياضيات في جامعة مريلاند الأمريكية صفا موتيشارعي Safa Motesharrei إذ لاحظ أن بعض الفرائس في الطبيعة تبقى على قيد الحياة دائماً لتستمر دورة الطبيعة، إلا أن بعض المجتمعات التي تداعت مثل حضارة المايا والحثيين مثلاً لم تتمكن من التعافي أبداً. وقت سليب للإجابة عن هذه التساؤلات، قام موتيشارعي بنمذجة المجموعات السكانية البشرية على أنها حيوانات مفترسة، والموارد الطبيعية على أنها فرائس، ثم قسم مجموعة «الحيوانات المفترسة» إلى مجموعتين غير متساويتين، مجموعة الصفوة الثرية ومجموعة الأفراد العاديين الأقل ثراءً، فوجد أن من شأن حالة التفاوت البالغة أو استنزاف الموارد دفع المجتمع إلى الهاوية، لكن الانهيار لا يكون كلياً إلا إذا صادف اجتماع الظرفين، «إذ يغذي أحد الظرفين الآخر» على حد قول الباحث. فالثراء يحمي الأثرياء من آثار استنزاف الموارد مدة أطول مقارنة بغير المقتدرين، لذلك يقاومون النداءات المطالبة بتغيير إستراتيجي، حتى فوات الأوان. نذير شؤم بلا شك للمجتمعات الغربية التي بلغت درجات خطيرة من عدم التساوي، ولاسيما أن نسبة الـ1% الأكثر ثراءً في العالم يملكون الآن نصف الثروات، وفق أحدث التحليلات، وأن الهوة التي تفصل أصحاب الثراء الفاحش عن سائر البشر تتزايد منذ الأزمة المالية العالمية التي طرأت في 2008. بل إن الغرب في اللحظة الراهنة ربما يعيش في حيز سليب من الزمن، فقد بينت مجموعة موتيشارعي أن الاستهلاك السريع لموارد غير متجددة مثل الوقود الأحفوري ربما يمكن المجتمع من التنامي على نطاق يفوق بكثير ما كانت ستتيحه الموارد المتجددة وحدها، الأمر الذي يمكنها من تأجيل الانهيار الذي يكون أشد وطأة بكثير لحظة وقوعه، وفق ما خلص إليه الباحثون. مشهد مظلم رسم جوزيف ترينرJoseph Trainer، خبير الأنثروبولوجيا في جامعة يوتا الأمريكية ومؤلف كتاب «The Collapse of Complex Societies» (انهيار المجتمعات المعقدة) مشهداً مظلماً إذ استقرأ السيناريو الأسوأ الذي تنقطع فيه موارد الوقود الأحفوري فينقطع بدوره الماء والغذاء ما يسفر عن فناء الملايين من البشر خلال أسابيع. مشهد كارثي بالفعل، لكن الجميع لا يجمع على صحة تطبيق نموذج الازدهار والتراجع على المجتمع الحديث، فربما صح تطبيقه على المجتمعات حين كانت أصغر حجماً وبمنأى عن أحدها الآخر، لكن هل يمكن عملياً تصور تلاشي الولايات المتحدة إثر حرب أهلية ضارية تودي بالجميع؟ ثمة جيوش من العلماء والمهندسين العاملين على تطوير حلول ومن الممكن من الناحية النظرية تفادي أخطاء المجتمعات السابقة، فضلاً عن أثر العولمة على تعزيز هذه المجتمعات. البحث عن المصطلح هذا يعود بنا إلى تعريف المقصود بالانهيار. فقد عرف فريق موتيشارعي البحثي انهيار المجتمعات تاريخياً وفق الحدود الجغرافية البحتة، فإن تمكن بعضهم من البقاء وهاجر بحثاً عن موارد جديدة، كوَن مجتمعاً جديداً. وفق هذا المعيار، انهارت حتى المجتمعات الأكثر تقدماً بشكل نهائي وهو مصير محتمل للغرب أيضاً، لكنه لا يعني بالضرورة إبادة تامة. لذا يتفادى عدد من الباحثين استعمال كلمة «انهيار» ويفضلون التحدث عن «فقدان سريع للتعقد». على سبيل المثال، حين تهدمت الإمبراطورية الرومانية، نشأت مجتمعات جديدة لكن اقتصاد وثقافة وهياكل هذه المجتمعات كانت أقل تعقيداً، فعاش الناس حياة أقصر وأكثر مرضاً. يرى تورشين أنه من غير المرجح أن يحدث هذا اليوم وعلى هذا الصعيد لكنه لا يستبعد مصيراً أقل وطأة منه: انقسام الاتحاد الأوروبي أو فقد الولايات المتحدة على سبيل المثال نفوذها من خلال حلف شمال الأطلسي وحلفائها المقربين، مثل: كوريا الجنوبية. وثمة من يرى على صعيد آخر، مثل يانير بار- يام Yaneer Bar-Yam في معهد نيو إنغلاند للأنظمة المعقدة في ماساتشوستس في هذه التغيرات العالمية زيادة في التعقد، مع تخلي الحكومات الوطنية عن نفوذها لمصلحة شبكات نفوذ أكثر تمركزاً وأكثر امتداداً وكأن العالم بات أكثر اندماجاً. الغرب ليس على ما يرام بصرف النظر عما سيحدث تحديداً، يكاد الجميع يتفق على أن مستقبل الغرب غير جيد. فهل ثمة ما بوسعنا القيام به لتخفيف وطأة الضربة القادمة؟يقول تورشين إن التلاعب بالقوى المغذية لهذه الدورات، مثل رسم إستراتيجيات ضريبية أكثر تحرراً على صعيد المثال لمعالجة التفاوت في الدخل وتضخم الدين العام، ربما يمكّن الغرب من تفادي وقوع الكارثة.أما موتيشارعي فيعتقد أنه ينبغي الحد من النمو السكاني إلى مستويات مستديمة وفق نموذجه. لكن هذه المستويات تتباين مع الزمن حسب الموارد المتبقية ومدى استدامة الاستهلاك. بيد أن المشكلة في هذه الحلول تكمن في أن الإنسان أثبت عدم إتقانه التخطيط للمدى البعيد. وفي بحوث علم النفس الحديثة ما قد يفسر السبب، إذ يميز علم الإدراك نمطين من التفكير، أحدهما آلي، سريع وغير مرن والآخر أبطأ، أكثر تحليلاً ومرونة. لكل نمط استعماله وفق السياق ولطالما عد تواترهما النسبي في مجموعة سكانية مستقراً. لكن ديفيد راند David Rand، خبير علم النفس في جامعة ييل الأمريكية يرى أن السكان ينتقلون من دورة تفكير إلى أخرى على مدى الزمن. لنقل على سبيل المثال أن ثمة مجتمعاً يعاني مشكلة في النقل. تقوم مجموعة صغيرة من البشر بالتفكير بشكل تحليلي وابتكار السيارة، فتُحّل المشكلة ليس لأجلهم فقط بل لأجل الملايين، أي عدد أكبر من الناس الذين لا يعودون في حاجة إلى ممارسة التفكير التحليلي في هذا المجال على الأقل، فيحدث عندئذ تحول إلى نمط التفكير الآلي. هذا ما يحدث كلما ابتُكرت تقنية جديدة جعلت البيئة أكثر قابلية للعيش، إذ تبدأ المشكلات بالتراكم بمجرد استعمال أعداد بالغة من الناس هذه التقنية دون بصيرة. تغير المناخ إثر الاستهلاك المفرط للوقود الأحفوري مثال آخر على ذلك، كذلك الإفراط في استهلاك المضادات الحيوية بما أدى إلى نمو المقاومة الجرثومية للعلاج، أو الإخفاق في توفير المال للتقاعد. ويقول جوناثان كوهن Jonathan Cohen عالم النفس في جامعة برنستون الذي طور نظرية راند إن هذه النظرية ربما تحل لغزاً قديماً بشأن سلوك المجتمعات: لماذا تستمر في سلوكها المدمر للذات حتى بعد أن ميز أصحاب التفكير التحليلي الخطر المحدق بهم؟ تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها الربط بين تطور المجتمعات وعلم النفس البشري، ويقر العلماء ببساطة نماذجهم حتى الآن. وفي حين لا يحاول راند توجيه أية سياسة إلا أن نموذجه يرسم توجهاً عاماً يجدر النظر فيه والبحث عن حلول. فلا بد أن يكون التعليم جزءاً من الحل وفق كوهن الذي يؤكد ضرورة زيادة تعميد الفكر التحليلي في الصفوف الدراسية. لكن ترينر يرى أن محاولة زرع المزيد من الحكمة والنظر في العواقب مجرد حلم؛ لأن علم الاقتصاد السلوكي إذ يدلنا على أمر، فإنما يدلنا على أن صنع القرار عند البشر يتسم بالعاطفية بشكل متزايد، وليس بالعقلانية، ويرى أن من الأولى الآن معالجة تراجع معدل الابتكار مقارنة بحجم الاستثمار في البحث والتطوير، في الوقت الذي تتنامى فيه مشكلات البشرية صعوبة. فهو يتوقع عجز الابتكار التقني عن إنقاذنا في المستقبل خلافاً لحاله في الماضي. هل الغرب في مأزق حرج قد لا يستطيع الخروج منه؟ احتمال وارد. لكن البقاء يتوقف في نهاية المطاف على مدى سرعة تكيف الناس، فإن لم يُقلَّص الاعتماد على الوقود الأحفوري، ويُعالج التفاوت الفاحش في مستويات العيش، وتوجد طريقة لوقف تناحر أبناء النخبة فيما بينهم، لن تكون النهاية سعيدة.أما إذا نجا الغرب من المأزق حسب ترينر، فسيكون ذلك بمحض الحظ لا الحكمة، «فنحن الجنس الذي كان وسيبقى يتحسس طريقه إلى بر الأمان دون تخطيط». محمد کورانی من کتاب خصائص الحضارة المثالية القادمة

المزيد

قنواتنا

الوصول إلينا

Our Channels