*مسلك “حقّ الطاعة”: مدرسة للتقرب الى الله*
محمد كوراني
نعم، قلنا في المقال السابق، في الفقه الإسلامي، يقف الإنسان أمام الله بين مدرستين:
مدرسة قبح العقاب بلا بيان التي تُعلي من شأن أصل البراءة وسعة الرحمة، ومدرسة حقّ الطاعة التي تؤمن بأنّ الإنسان مكلّفٌ بمقام الطاعة قبل مقام المعرفة، وأنّ كل أمرٍ إلهيّ هو اختبار لحقيقة العبودية لا لمقدار الفهم.
مدرسة حقّ الطاعة ترى أنّ واجب الإنسان لا يتوقف عند حدود “ما أُمر به صراحةً”، بل يشمل كل ما يحتمل أن يكون لله فيه رضا، لأنّ مقام الربوبية يقتضي أدبًا مطلقًا في الطاعة، كما يقتضي مقام العبودية خشيةً دائمة من التقصير.
✦ بين عبادة التجار وعبادة العبيد وعبادة الأحرار
قال أمير المؤمنين عليه السلام:
> «إنّ قومًا عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجار، وقومًا عبدوه رهبةً فتلك عبادة العبيد، وقومًا عبدوه شكرًا فتلك عبادة الأحرار».
المؤمن في مدرسة حقّ الطاعة يسير نحو عبادة الأحرار — لا يطيع خوفًا من النار ولا طمعًا في الجنة — بل لأنّ الله أهلٌ لأن يُطاع.
لكنه في الوقت نفسه لا يغفل عن أنّ شكر النعم واجبٌ شرعيّ وعقليّ، كما قال تعالى:
> «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا» (النحل: 18).
فإذا كانت نعم الله لا تُحصى، كان وجوب الشكر عليها غير متناهٍ، وإذا كان الشكر لا يُؤدّى على وجهه، صار الإحساس بالتقصير الدائم حالة عقلية وروحية لازمة للمؤمن.
ومن هنا تنشأ روح الخوف المحمود؛ لا خوف اليائس، بل خوف العارف الذي يرى اتساع الفضل الإلهي أمام ضآلة جهده، فيبقى راجيًا أن يشمله الله برحمته.
✦ منطق مسلك حقّ الطاعة
قد يُظنّ أن مسلك التشديد في الأحكام خروج عن الاعتدال، لكنّ النظر الفقهي الدقيق يُظهر أنّ هذا المسلك منطقيّ تمامًا:
فإذا كان الله هو المالك المطلق للإنسان وحياته، فكلّ تصرفٍ خارج أمره هو تصرّف في ملك الغير بغير إذنه، وهذا قبيحٌ عقلاً.
إذن، الأصل في العلاقة مع الله هو وجوب الطاعة حيثما احتمل الأمر الإلهيّ، لا حيثما تأكّد فقط.
بهذا المنطق، يصبح الاحتياط في الدين ليس تضييقًا، بل تحرّزًا عقلانيًا من مخالفة المولى.
ومن اختار مسلك “حقّ الطاعة” فقد اختار الاحتياط حبًّا لا خوفًا، وفضّل الورع على التبرير، واليقين على الظنون.
✦ نعم، أصل البراءة حجّة… ولكن
في المقابل، من يسير على أصل البراءة ويقول: “لا عقاب بلا بيان”، هو في موقفٍ صحيحٍ فقهيًا ما دام مستنده الدليل الشرعي.
لكن بين “صحة المسلك” و”علوّ المقام” فرقٌ كبير.
فالذي يعيش على الحدّ الأدنى من التكليف لا يُعاقب، أما الذي يتقدّم طوعًا نحو الحدّ الأعلى من الطاعة فهو الذي يُفيض الله عليه التسديد والبركة.
فلكلّ مقامٍ ثمن، ولكلّ درجةٍ في القرب من الله طريقها في الطاعة.
قال تعالى:
> «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» (النحل: 128).
فالمعية الإلهية ليست وعدًا عامًا، بل عطاءٌ خاصٌّ لمن بالغ في التقوى والإحسان.
✦ الطاعة الدقيقة في زمن الأعذار
كثيرون اليوم يتحجّجون بتغيّر الزمان والمكان لتخفيف الأحكام والتهرب منها، فيتساهلون في المكاسب المشبوهة حيث الشبهة اليوم يدخل في كل تجارة واسترزاق، وفي مظاهر الاختلاط والسفر إلى بلاد لا تُراعى فيها حدود الشرع، ويبرّرون ذلك بضرورات المعيشة أو ضغط الواقع.
لكن المؤمن من مدرسة حقّ الطاعة يرى في هذا العصر أعظم فرصة للامتحان:
فأن تطيع الله في زمنٍ يستهين بالطاعة هو أعظم أجرًا من أن تطيعه في زمنٍ صالح.
هو لا يرفض الفقه التطبيقي ولا يجهل أحكام الضرورة، لكنه يدرك أن الضرورة لا ترفع أصل العبودية، وأنّ من يختار التضحية والاحتياط في سبيل رضا الله يُكرم في الدنيا قبل الآخرة.
✦ ثمار حقّ الطاعة في الدنيا والآخرة
القرآن يربط النصر والتسديد الإلهي بالتقوى والطاعة الدقيقة:
> «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» (الطلاق: 2–3).
وحين يقول تعالى:
> «إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ» (محمد: 7)،
فالمقصود ليس النصر العسكري فقط، بل النصر في البصيرة، والثبات الفرديين، والتوفيق، والتسديد في كل ابعاد المجتمع.
إنّ وجود فئةٍ من المؤمنين الذين يسلكون مسلك حقّ الطاعة هو ضمانةٌ روحية للمجتمع كلّه، لأنّ بركة صدقهم تتسرّب إلى من حولهم.
فكما تُرفع البلدة الصالحة ببركة الصالحين، كذلك تُحاط الأمة بنصرٍ إلهيّ إذا وُجد فيها من يخلص في الطاعة إلى هذا الحدّ.
هم أولئك الذين يُرزق بهم الناس، ويُستسقى بهم الغمام، ويُفتح بهم باب النور، كما ورد في الحديث الشريف.
فهم يعيشون التقصير الدائم أمام الله، لكن الله يجعلهم سبب الكمال في المجتمع.
✦ في معادلات الله لا تضيع المشقة
في المعادلات الإلهية، لكل شيءٍ ثمن، ولكل درجةٍ من التسديد والتوفيق كلفةٌ من الطاعة.
ومن شدّد على نفسه في الحلال والحرام حبًّا لله، شدّد الله عليه في البركة والفتح والتسديد.
أما من طلب السهولة في التكليف، فله السهولة في الثواب أيضًا.
لهذا، فإنّ مسلك حقّ الطاعة ليس طريقًا للمتزمتين، بل طريق العارفين الذين فهموا أنّ الله يُعطي على قدر الإخلاص، لا على قدر الأعذار.
ومن أحبّ أن يرى بركة السماء في دنياه، فليبدأ بالانضباط في دينه، فإنّ النصر الإلهي لا يُشترى بالأمنيات، بل يُنال بثمن الطاعة الدقيقة. قسم كبير من النصر الالهي هو بسبب صحة الخط و النهج حيث لايوجد اليوم احد غيرنا في العالم يواجه الطاغوت والباطل. لكن قسم جزيل من النصر الاضافي هو يتعلق بوجود عباد و زهاد يتكبدون العناء والشقاء و الجهد والتعب لاعلاء كلمة الحق.
#حضارة_إسلامية_مستقبلية_مشرقة
https://t.me/M_Civilization #Merciful_Dignified_Civilization
#حضارة_الرحمة
