*مدرسة “حقّ الطاعة”: حين تتحوّل المسؤولية إلى عبادة*
محمد كوراني
في قلب الفقه الشيعي، تتجلّى مدرستان في فهم علاقة الإنسان بربّه:
مدرسة الرحمة والبيان التي تؤكّد على أنّ الله لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، وأنّ الدين سهلٌ سمح وتعتمد على أصل البراءة؛
ومسلك حقّ الطاعة التي تقول: إنّ الإنسان – مهما بلغ من الإيمان – يظلّ مقصّرًا أمام الله، لأنّ حقّ الله أعظم من أن يُؤدّى، ولأنّ أوامر الخالق تستحقّ أن يُبذل لها العمر كلّه طاعةً وخضوعًا و تستحق ان يضحي الانسان ويفنى ويموت في طاعة الله.
مسلك حقّ الطاعة لا يقوم على الخوف وحده، بل على الإحساس العميق بالمسؤولية أمام الله، على وعيٍ بأنّ كل نَفَسٍ من العمر أمانة، وأنّ المؤمن الحقيقي لا يبحث عن الرخص والفتاوى الميسّرة، بل عن الطريق الذي يرضي مولاه ولو كان أشقّ على نفسه.
✦ المؤمن في مدرسة حقّ الطاعة
المؤمن في هذه المدرسة يعيش حياة الانضباط، لا القيد؛ حياة الحبّ الواعي، لا العادة الباردة.
هو لا ينتظر الظروف لتتغيّر، ولا يتحجّج بأنّ “الزمن صعب” أو “الضرورات تبيح كل شيء”، بل يرى أن كل زمن هو ميدان امتحان جديد للطاعة، وأنّ الله لم يكلّفه إلا بما يطيق، لكنه يختار الأصعب حبًّا لا إلزامًا.
حين يفتح عينيه على العالم المزدحم بالشهوات والمغريات، لا يهرب من الحياة، بل يعيشها بوعيٍ صارمٍ منضبط.
في عمله يتحرّى الحلال الدقيق، فيرفض المكاسب المشبوهة أو المعاملات الربوية ولو بدت مشروعة عند الناس.
في نظرِه وحديثه يزن كلّ كلمةٍ ونظرة بميزان الشريعة، فلا يُطلق بصره في الحرام، ولا يشارك في لهوٍ يُبعده عن نقاء القلب.
في طعامه وملبسه يسأل عن المصدر والمضمون، لأن في الكثير من الوظائف الحكومية و الشركات الخاصة هناك شبهات كبيرة، لأنّ البركة عنده في الطاعة لا في الكثرة.
✦ الطاعة في زمن الأعذار
حين يقول الناس: “الدنيا تغيّرت”، يجيب المؤمن من مدرسة حقّ الطاعة:
> “لكنّ ربّ الدنيا لم يتغيّر.”
فهو لا يبيع دينه بعذر التطوّر، ولا يخفّف العبادة بحجة المشاغل، ولا يغيّر الحلال والحرام بتبدّل العادات.
يرى أنّ الله اختبره بهذا الزمن الحديث، كما اختبر الأنبياء في أزمانهم، وأنّ الطاعة في زمن الفتنة أعظم ثوابًا من الطاعة في زمن الصفاء.
لهذا يعيش المؤمن من مدرسة حقّ الطاعة تحدّي الالتزام في زمن التسيّب، فيغضّ بصره وسط بحر الصور، ويحفظ لسانه وسط طوفان الكلمات، ويتحرّى رزقه في سوقٍ امتلأت بالحرام المموّه.
هو إنسانٌ معاصرٌ بكل أدوات العصر، لكنه لا ينسى ميزان الآخرة، يعيش الحداثة منضبطةً بحاكمية الله، لا متفلّتة باسم الحرية.
✦ المكاسب الصعبة وسلوك الورع
في زمن الربا البنكي، والاختلاط المفرط، والسفر إلى بلاد تُغري بالعصيان، يختار المؤمن من مدرسة حقّ الطاعة الصبر على المشقة بدل الرضوخ للحرام.
فهو يرفض الربح السهل إن كان فيه شبهة، ويغلق بابه عن المعاملات غير المضمونة شرعًا، ولو قيل له: “الجميع يفعل ذلك”.
وفي السفر إلى بلاد لا يُسمع فيها الأذان، لا يتنازل عن هويّته، بل يحوّل غربته إلى عبادة، ومسجده إلى وطنٍ صغيرٍ للإيمان.
ولأنه يعتبر كلّ مستحبٍّ بابًا إلى القرب، وكل مكروهٍ طريقًا إلى البعد، فهو يتعامل مع العبادات بأقصى درجات الحرص.
لا يكتفي بالحدّ الأدنى من الصلاة، بل يسعى إلى حضور القلب والخشوع الكامل.
يصوم تطوّعًا لا رياءً، ويقوم الليل لا فرضًا، ويجعل من الورع زينةً في كل تصرفاته.
✦ الطاعة التي تُثمر الطمأنينة
قد يظنّ البعض أن أتباع مسلك حقّ الطاعة يعيشون في ضيقٍ وتشديد، لكن العارفين بهم يرون وجوهًا مطمئنة وقلوبًا منشرحة.
ذلك لأنهم اكتشفوا سرّ الطاعة: أن من أطاع الله بصدقٍ، عاش حرًّا من خوف الناس ورغباتهم.
إنهم أحرارٌ من الداخل، لا يطلبون رضا المجتمع بل رضا المعبود، ولا يُرهقهم التزامهم، لأنهم يرونه طريق العزّة لا طريق القيد.
فهم أهل يقينٍ بأنّ كل جهدٍ في سبيل الطاعة يُثمر نورًا في القلب وسكينة في النفس، وأنّ التشديد على النفس ليس عن قسوة، بل عن حبٍّ لله الذي لا يُقاس بحسابات الدنيا.
✦ عباد الطاعة والعشق
مسلك حقّ الطاعة ليست مدرسة التشدد، بل مدرسة الصدق في الحبّ الإلهيّ.
أتباعها لا يهربون من التحديات، ولا يطلبون الأعذار، لأنهم عرفوا أن الدين لا يُختبر في سهولته، بل في التزامه. هم الذين قال فيهم الإمام علي عليه السلام:
> “هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون.”
يعيشون في قلب هذا العالم المعقّد، لكنّ قلوبهم معلّقة بالسماء.
يعملون، ويجاهدون، ويضحّون، ويعرفون أنّ الحياة الدنيا لحظة اختبار، وأنّ الفوز ليس في الراحة بل في الوفاء لحقّ الطاعة. و من الطبيعي جدا ان هؤلاء الاشخاص يكون لهم دور خاص عند الله في متغيرات الامور و مجريات المسائل الحساسة و في المنعطفات الكبرى. هذا هو نظام أولياء الله المخلصين في سلسلة مشيئة الله و تدبيره للكون وللعالم الصغير.
