الولاية في زمن الغيبة كأساس للنظام الاجتماعي

المقال الثالث: الولاية في زمن الغيبة كأساس للنظام الاجتماعي

تعدّ الولاية من المفاهيم المحورية في الفكر الإسلامي، وهي لا تقتصر على المعنى الروحي للمحبة والنصرة، بل تمتد لتشمل السلطة الشرعية التي تنظم شؤون المجتمع وفق أحكام الله. وفي عصر الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، تتجلى هذه الولاية في مفهوم ولاية الفقيه، الذي يشكل الأساس العملي لبناء النظام الاجتماعي الإسلامي الحديث.

1. معنى الولاية وأبعادها

وردت كلمة الولاية في القرآن الكريم والسنة النبوية في معانٍ متعددة: المحبة، النصرة، القرب، والسلطة.

إلا أنّ المعنى الذي يهمنا في علم الاجتماع هو السلطة الشرعية التي تقوم على رعاية مصالح الناس وتطبيق أحكام الدين.

الولاية بهذا المعنى ليست سلطة قهرية، بل هي أمانة ومسؤولية لتحقيق العدالة الاجتماعية، وصيانة القيم، وتنظيم العلاقات في المجتمع بما ينسجم مع مقاصد الشريعة.

2. الولاية في عصر الغيبة الكبرى

مع غيبة الإمام الثاني عشر، لم يترك الإسلام الأمة دون قيادة، بل أوكل أمرها إلى “رواة الحديث” أي الفقهاء العدول الذين يتصفون بالشروط الشرعية (العلم، العدالة، التقوى، الكفاءة).

وتطورت هذه الفكرة لتأخذ شكل ولاية الفقيه، التي تمثل استمرارًا لخط الإمامة، حيث يكون الفقيه هو المرجع في الشؤون الدينية والسياسية والاجتماعية.

ولاية الفقيه ليست مجرد نظرية فكرية، بل نظام واقعي أثبت نجاحه في توجيه المجتمعات الإسلامية نحو مقاومة الظلم والاستعمار، وحفظ الهوية الدينية، وتحقيق إنجازات حضارية ملموسة.

3. ولاية الفقيه كنظام اجتماعي

من منظور علم الاجتماع الإسلامي، ولاية الفقيه تمنح المجتمع بنية متماسكة قائمة على:

وحدة المرجعية الدينية والسياسية: ما يضمن انسجام القيم مع القوانين.

القيادة الأخلاقية: حيث يتولى الحكم من يتمتع بالتقوى والخبرة، وليس من يسعى وراء السلطة لمصالح شخصية.

تطبيق العدالة الاجتماعية: باعتبارها غاية أساسية للشريعة.

إنّ ولاية الفقيه لا ترى الدولة هدفًا بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الأهداف الإلهية مثل إقامة العدل، نشر العلم، وصيانة الأخلاق العامة.

4. العلاقة بين الفرد والدولة في ضوء الولاية

يُنظر إلى الفرد في المجتمع الإسلامي على أنه خليفة لله في الأرض، والدولة مهمتها الأساسية تمكين هذا الفرد من تحقيق كماله الروحي والأخلاقي.

تحت مظلة ولاية الفقيه، يصبح دور الحكومة خدمة الناس لا السيطرة عليهم، فهي وسيلة لتطبيق الأحكام الإلهية، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

“والله لهي أحب إلي من أمرتكم، إلا أن أقيم حقًا أو أدفع باطلًا.”

5. أثر الولاية في نهضة العلوم الإنسانية

الولاية ليست إطارًا سياسيًا فقط، بل بيئة معرفية تشجع على نمو العلوم التي تنطلق من رؤية توحيدية.

فكما نشأت علوم الطب والفلسفة والفلك في حضارات إسلامية راعية للعلم،

كذلك يمكن أن ينشأ علم اجتماع إسلامي تحت رعاية نظام قائم على الولاية، لأنّ العلم يحتاج إلى مناخ إيماني وأخلاقي يحميه من التسييس والهيمنة المادية.

6. الولاية مقابل الأنظمة الوضعية

بينما تعتمد الأنظمة الوضعية الغربية على القوة المادية والبراغماتية، فإنّ الولاية تعتمد على القيم الروحية والإلهية كأساس للحكم.

فالدولة ليست مجرد أداة للسيطرة، بل مشروع حضاري يسعى إلى تحقيق أهداف سامية تتجاوز المصلحة الفردية إلى مصلحة الإنسانية جمعاء.

7. الولاية وجهاد النفس

الولاية الخارجية (النظام السياسي) ترتبط ارتباطًا وثيقًا بـ الولاية الداخلية (جهاد النفس).

فمن لا ينتصر على أهوائه وشهواته، لا يستطيع أن يسهم في بناء مجتمع عادل.

لذلك، الإصلاح الفردي يمثل الخطوة الأولى لتحقيق الإصلاح الاجتماعي تحت راية الولاية.

8. الخلاصة

تشكل الولاية في زمن الغيبة الركيزة الأساسية للنظام الاجتماعي الإسلامي.

هي التي تحفظ هوية الأمة، وتضمن توازن العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، وتوفر البيئة الملائمة لنشوء علم اجتماع أصيل يعبر عن القيم الإسلامية.

وبدون الولاية، تصبح العلوم الإنسانية مجرد أدوات تابعة لقوى مادية لا تراعي البعد الأخلاقي والروحي.