الرؤية الإسلامية كأساس لعلم الاجتماع

المقال الثاني: الرؤية الإسلامية كأساس لعلم الاجتماع

يمثل الإسلام المحمدي الأصيل منظومة فكرية شاملة تحدد موقع الإنسان في الكون، وتفسر علاقته بالوجود والخالق، وتوجه مسيرة حياته من لحظة الميلاد إلى ما بعد الموت. هذه الرؤية الكلية لا تنفصل عن أي علم إنساني، بل تقدم أساسًا فلسفيًا ومعياريًا لعلم الاجتماع يختلف جذريًا عن الأسس المادية التي بُنيت عليها العلوم الاجتماعية الغربية.

1. أصول العقيدة: التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد

الرؤية الإسلامية للإنسان والمجتمع تنطلق من أركان العقيدة الأساسية:

التوحيد: الإيمان بأن الله هو مصدر الوجود، وهو الذي يضع القوانين التي تحكم الكون والحياة.

النبوة: تمثل سلسلة الهداية الإلهية التي ترشد البشر إلى طريق الحق.

الإمامة: استمرار لهذه الهداية عبر أئمة معصومين، مهمتهم الحفاظ على الشريعة وتطبيقها.

المعاد: الإيمان بأن الحياة الدنيا مرحلة اختبار، وأن المصير الأخروي يحدد على أساس السلوك في هذه الدنيا.

هذه الأصول الأربعة تمنح علم الاجتماع الإسلامي رؤية شمولية ترى المجتمع ككائن حي مرتبط بمسار كوني، وليس مجرد تجمع بشري تحكمه المصالح الاقتصادية أو الصراعات المادية كما تفترض بعض النظريات الغربية.

2. العدل والإمامة كتطبيق عملي للتوحيد

في الفكر الإسلامي، يُعتبر العدل من القيم المحورية، إذ يُعدّ انعكاسًا مباشرًا للتوحيد. فالله عادل، وبالتالي يجب أن يكون النظام الاجتماعي والسياسي قائمًا على القسط.

أما الإمامة، فهي تجسيد عملي لهذه الرؤية، إذ تمثل قيادة معصومة مسؤولة عن هداية الناس، وحمايتهم من الانحراف، وتطبيق مبادئ العدل في شتى المجالات.

هذا المفهوم يجعل القيادة السياسية والدينية ليست مجرد أداة للحكم، بل ضمانة لتحقيق الانسجام بين القيم الإلهية والمجتمع الإنساني.

3. الولاية ودورها في العصر الحديث

في عصر الغيبة الكبرى، يبرز مفهوم ولاية الفقيه، أي سلطة الفقيه الجامع للشرائط، ليكون نائبًا عن الإمام المعصوم في قيادة الأمة وتطبيق الأحكام الإلهية.

هذا المفهوم ليس مجرد نظرية سياسية، بل بنية اجتماعية وروحية تعكس حاجة المجتمع إلى قيادة توحّد بين القيم والممارسة، وبين الدين والدولة.

ومن منظور علم الاجتماع، الولاية توفر الإطار المؤسساتي الذي يضمن استمرار الدين في الحياة اليومية، بما يحقق التكامل بين الفرد، المجتمع، والسلطة.

4. فروع الدين كأساس للبنية الاجتماعية

إلى جانب أصول الدين، توجد فروع الدين: الصلاة، الصوم، الحج، الزكاة، الخمس، الجهاد، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، التولي والتبري.

هذه الأحكام ليست مجرد عبادات فردية، بل بنية اجتماعية تنظّم العلاقات بين الأفراد، وتوجههم نحو بناء مجتمع متماسك، متعاون، قائم على قيم الحق والعدل.

فمثلاً، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثلان آلية اجتماعية لتصحيح السلوك الجماعي وضمان التوازن الأخلاقي داخل المجتمع.

5. علم الاجتماع الإسلامي بين العقيدة والواقع

إذا أردنا أن نبني علم اجتماع إسلامي أصيل، فإنّ أول ما يجب أن نعيه هو أنّ الرؤية الكونية الإسلامية هي المرجعية العليا، وليست مجرد إضافة ثانوية.

فالعلم الذي لا ينطلق من التوحيد، ولا يرى للإنسان غاية أسمى من متع الدنيا، سيكون علمًا مبتورًا، مهما بلغت دقته الإحصائية أو تحليلاته المادية.

6. مقارنة مع الرؤية الغربية

النظريات الغربية، سواء الوظيفية أو الماركسية أو غيرها، تنظر إلى المجتمع بوصفه نظامًا بشريًا مغلقًا تحكمه قوانين القوة أو الاقتصاد أو العقلانية المجردة.

أما الإسلام، فيعتبر المجتمع جزءًا من مشروع إلهي شامل، يتفاعل مع التاريخ وفق سنن إلهية، ويهدف في نهاية المطاف إلى تحقيق العبودية لله والعدل بين الناس.

هذه الرؤية تمنح علم الاجتماع الإسلامي قدرة على تفسير الظواهر الاجتماعية من منظور أخلاقي وروحي، لا يقتصر على التحليل المادي.

7. خلاصة

إنّ الرؤية الإسلامية المبنيعلى فكر اهل البيت عليهم السلام، ليست مجرد فلسفة دينية، بل منهج معرفي متكامل، يحدد أهداف الإنسان والمجتمع، ويربط العلوم الإنسانية بغاية سامية هي تحقيق الكمال الإنساني والعدل الإلهي.

لذلك، فإنّ أي مشروع لبناء علم اجتماع إسلامي لا يمكن أن ينجح ما لم يتأسس على هذه الرؤية، ويجعل منها البوصلة التي تحدد مساره وأولوياته.