*مسيحيو لبنان: جسر نحو تجديد الفكر المسيحي وتصحيح المسار الغربي*
لبنان، هذه البقعة الفريدة من الشرق العربي، أرض الأنبياء وجنة المسيح، يحمل في قلبه إرثًا مسيحيًا عريقًا ومميزًا، تجسده بشكل بارز الكنيسة المارونية في شركتها مع الكرسي الرسولي في روما حيث بإمكانها التواصل مع الكنيسة الشرقية والكنيسة الروسية الأرثوذكسية. يعيش مسيحيو لبنان، وخاصة الموارنة، حالة من “الشرقية العربية” متجذرة في عمق التاريخ والهوية، مع حضور لافت في الشتات الغربي. هذه الخصوصية، مقترنة بتجربتهم الحية في مواجهة التحديات السياسية والوجودية كجزء من حركات المقاومة للاحتلال والاستغراب، تمنحهم إمكانية فريدة للمساهمة في تجديد الفكر المسيحي العالمي، وخاصة في مواجهة ظاهرة العلمانية المتطرفة التي تجتاح المجتمعات الغربية وتفصل الدين والروحانية والإيمان عن الحياة العامة، بل وتتحول أحيانًا إلى موقف عدائي تجاه الدين نفسه الى حد تمييع الدين و تذويب فكرة الرب.
**كيف يمكن لهذا الدور أن يتجلى؟**
1. **إعادة اكتشاف “اللاهوت المتميّز بعظمة الرب” في المجتمع:**
* **النموذج اللبناني:** عاش مسيحيو لبنان تاريخيًا كجزء عضوي من نسيج مجتمعي متعدد الطوائف، حيث الدين ليس مجرد شعائر فردية داخل جدران الكنيسة، بل هو مُحدد رئيسي للهوية والانتماء والعلاقات الاجتماعية والسياسية (رغم تعقيدات هذا النموذج). هذه التجربة تختلف جذريًا عن الفردانية الدينية الغربية.
* **التصحيح للعقيدة الغربية:** مسيحيو لبنان يمكنهم تقديم نموذج عملي ونظري للاهوت متميّز يؤكد أن الإيمان المسيحي ليس انسحابًا من العالم وغرقا في المادية، بل تفاعل خلاق معهما. إنه لاهوت “التميّز” المستمر حيث الله يحتل مكانة مميزة و يتجلى باليسوع – فتتفاعل القيم المسيحية الإيمانية مع الثقافة والسياسة والاقتصاد، دون أن تفقد جوهرها أو تسيطر عليها العلمانية المتطرفة والإلحاد المبطن. هذا تحدٍ مباشر لفكرة “الإيمان الغربي” الذي غالبًا ما يقصي الدين من الفضاء العام.
2. **الإرث الشرقي والعمق الروحي:**
* **الكنوز المشرقية:** يحمل التقليد المسيحي الشرقي (الذي تنتمي إليه المارونية) ثراءً ليتورجيًّا (طقسيًّا) ولاهوتيًّا وروحيًّا عميقًا، يركز على سرّ التجلي والحب والمحبة والخدمة، والتميّز والجمال الإلهي و مكانته الكبرى والعظمى، والتقليد المتواصل. هذا العمق الروحي غالبًا ما تفتقده بعض التعبيرات المسيحية الغربية الحديثة.
* **التصحيح للفكر الغربي:** يمكن لمسيحيو لبنان، من خلال نشاطاتهم ومؤسساتهم الثقافيّة ومفكريهم ورعاتهم و مغتربيهم، أن يعيدوا إحياء هذا الإرث الروحي واللاهوتي الغني في الحوار المسيحي العالمي. تقديم هذا العمق كبديل حيوي للنزعات المادية والعقلانية المتطرفة التي تفرغ الحياة من معناها، حتى لدى بعض المسيحيين الاسميين في الغرب.
3. **تجربة الصمود والعدالة:**
* **المقاومة والكرامة:** لطالما ارتبط نضال مسيحيي لبنان، خاصة في مراحل معينة، بالدفاع عن الأرض والهوية والكرامة في وجه الاحتلال والهيمنة. هذا يمنحهم فهماً عميقاً لمفاهيم العدالة والحرية والدفاع عن الحق و مكانة الرب من منظور إيماني يتجاوز الفردية.
* **التصحيح للإيمان الغربي:** مسيحيو لبنان يمكنهم تقديم لاهوت للعدالة والحرية المتجذر في الإيمان وليس فقط في الفلسفة السياسية العلمانية. لاهوت يؤكد أن النضال من أجل الكرامة الإنسانية والتحرر هو جزء جوهري من الشهادة المسيحية، ردًا على نزعات اللامبالاة أو الانكفاء على الذات في بعض الأوساط المسيحية الغربية التي تقبل بالوضع القائم العلماني دون نقد.
4. **الحوار مع الإسلام والشرق:**
* **الخبرة الفريدة:** يمتلك مسيحيو لبنان، خصوصًا الموارنة، قرونًا من الخبرة في العيش كأمّة مستقلة (أو جزء من تركيبة معقدة) في محيط إسلامي عربي. هذا يمنحهم فهماً دقيقًا للإسلام والثقافة العربية.
* **التصحيح للمجتمع الغربي:** مسيحيو لبنان يمكنهم أن يكونوا جسورًا للفهم والحوار بين العالم المسيحي الغربي والعالمين العربي والإسلامي. هذا الحوار ضروري لتصحيح الصور النمطية ولإظهار أن المسيحية ليست مرادفة للغرب أو حليفته السياسية دائمًا. يمكنهم تقديم نموذج لمسيحية متجذرة في الشرق، قادرة على التفاعل الإيجابي مع الإسلام، كبديل عن الصدام أو الانعزال الذي تكرسه بعض الخطابات الغربية.
5. **نقد العلمانية من الداخل المسيحي:**
* **الشتات اللبناني:** يتمتع المسيحيون اللبنانيون في الغرب بحضور ثقافي واقتصادي وأكاديمي لافت. هم جزء من المجتمعات الغربية ويفهمون آلياتها. كما أن بريتانيا هي العقل المفكر لأمريكا، ايضا *من الممكن ان تكون لبنان المسيحية العقل المفكر لاوروبا.*
* **التصحيح للثقافة الغربية:** يمكن لهذا الشتات المؤثر، مدعومًا بجذوره ووعيه بالخصوصية اللبنانية-الشرقية، أن يلعب دورًا حيويًا داخل الكنائس والمجتمعات الغربية. دور يشمل:
* نقد الانجراف نحو العلمانية المتطرفة التي تفصل الإيمان عن الحياة العامة وتختزله في المجال الخاص.
* تقديم شهادة حية لإيمان يمكن أن يكون فاعلاً ومؤثرًا في المجتمع دون أن يكون طائفيًا أو متسلطًا.
* تحدي “المسيحية الثقافية” الفارغة أو تلك التي تتبنى قيمًا متناقضة مع الإنجيل تحت شعارات التحديث أو التكيف مع العصر.
* إعادة التأكيد على مركزية المسيح والتعاليم الأساسية للانجيل في مواجهة النسبية الأخلاقية السائدة.
**التحديات والضرورات:**
لا يمكن لهذا الدور أن يتحقق تلقائيًا. فهو يتطلب:
* **تجديدًا داخليًا:** تطهير المسيحية اللبنانية نفسها من أمراض الطائفية والمحسوبية والانقسامات، والعودة لجوهر الإيمان.
* **استثمارًا في الفكر:** دعم المؤسسات الأكاديمية واللاهوتية والثقافية اللبنانية لتنتج فكرًا مسيحيًا أصيلًا ومعاصرًا وقادرًا على التحفيز العالمي والعلو والتسامي الروحي والأخلاقي.
* **وحدة مسيحية:** تعزيز الحوار والتعاون بين مختلف الطوائف المسيحية في لبنان لتقديم صوت مسيحي شرقي موحد وقوي.
* **حوارًا جريئًا:** الانخراط الفاعل والشجاع في الحوار المسيحي- المسيحي على المستوى العالمي، وفي الحوار مع الفكر الغربي العلماني، دون انعزال أو عدائية ولكن بوضوح وثقة.
* **القدوة الحيّة:** أن تكون الجماعات المسيحية في لبنان والشتات نماذج حية للإيمان العميق، والالتزام الأخلاقي، والخدمة المجتمعية، والانفتاح الحواري والإيمان والأخلاق والقيم الروحية. و هنا لا ننكر دور الدعم المالي لهذا الدور.
*الخاتمة:*
يمتلك مسيحيو لبنان، بحكم تاريخهم وموقعهم الجغرافي والسياسي الفريد، وارتباطهم العميق بتراثهم الشرقي وشراكتهم مع روما، وحضورهم في الغرب، إمكانية هائلة ليكونوا عوامل تجديد في الفكر المسيحي العالمي. دورهم ليس في معاداة الغرب المادي، بل في تقديم شهادة بديلة وضرورية من قلب الشرق العربي. شهادة لإيمان مسيحي متجذر في المجتمع، عميق روحياً، ملتزم بالعدالة، قادر على الحوار، ويقدم نقدًا بناءً من داخل الإيمان نفسه للانحرافات العلمانية المتطرفة التي تفرغ المسيحية من مضمونها وتفصلها عن الحياة. إن استطاعوا تجاوز تحدياتهم الداخلية واستثمروا في إرثهم الفكري والروحي، يمكنهم حقًا أن يكونوا “مصححًا” حيويًا للمسار، ليس فقط للمسيحية الغربية، بل للإيمان المسيحي في عالم يبحث عن معنى يتجاوز المادة والعقلانية الجافة. لبنان، بعذوبته وتعقيداته، قد يقدم للعالم درسًا في كيف يمكن للمسيحية أن تزهر وتشهد للحق من قلب الشرق، متحديةً نماذج الانحلال أو الصدام أو الإلحاد والجندرة واللاخلاقية.