من كتاب الحضارة المشرقة المستدامة القادمة ، محمد كوراني
كل الحضارات ذائقة الموت، بما فيها الحضارة الغربية، إذا ما صدقنا نبوءة “بول فاليري” الشهيرة. إذ دقت “بداية نهاية الحضارة الغربية المعاصرة”، حسب مواطنه المعاصر الفيلسوف “ميشال أونفري”. أونفري يقول : هي أعراض لا تنذر عن انهيار قادم بقدر ما هي تشهد على انهيار وقع بالفعل. لقد حصل الأمر! أما عن دلائل الانهيار فإليك بعضها دون ترتيب طبعا وغير جامعة مانعة: تحويل مباني الكنائس إلى أغراض أخرى غير روحية، انعدام أيّ رغبة لدى الشبان في الغرب للالتحاق بمهنة الكهانة، نقض وضعف الإيمان والتملص والتحرر إزاء العقائد الدينية من قبل المؤمنين أنفسهم، التعامل مع الدين كما يحلو للمؤمن دليل على تفكك الأساس، تصدّعت جدران الكنائس وانهارت أقسام منها. ويشهد على الانهيار أيضا: اضمحلال القيم الاخلاقية و حتى ظهور مفهوم ما بعد الحقيقة الذي يعني انتشار النسبية على نطاق واسع، العجز عن تكوين مجتمع حيث يسود الانشطار، بمعنى هيمنة الفرد الواحد المنفرد، الأناني، المتبجح، المُطالب. ومن علامات هذا الانهيار يمكن أن نضيف موت الواجبات التي لم يعد يستسيغها أحد بينما تعطى الإمكانية كلها للحقوق التي يطالب بها الجميع لنفسه، لجماعته، لقبيلته، لرهطه. انتشار الأميّة حتى بين الذين يفترض فيهم حملة الشهادات وامتلاك المعرفة. الابتذال أصبح يعلق كقلادة ويحتفى به كجمالية عندما يقترفه لاعبو كرة القدم والممثلون والرياضيون بصفة عامة والمغنون ذوو الشهرة والنجاح ومقدمو البرامج في التلفزيون. يستعرض المال القذر المتحكم في كل شيء كعلامة على قيمة الذات. رفض البلوغ والوصول إلى الرشد والأطفلة جعل الراشد يعيش نكوصا كالصغار، هيمنة دين الاستهلاكوية الذي يقيس قيمة الذات بما تملكه، الفساد المستشري لرجال السياسة على نطاق واسع وحصانتهم، الاستهتار الذي غدا يمارس في العلن، اختفاء الشجاعة، قبول العبودية الطوعية برحابة صدر وسرور.
“الانهيار” بفكرة غير معهودة تقول بأن الحضارة الغربية على وشك الاندثار، كيف يمكن أن تندثر حضارة تكاد تصبح كونية؟ ميشال أونفري: كأنك تسألني: كيف يموت رجل بلغ من العمر 100 سنة؟ بالضبط لأنه بلغ هذا السن، فأيّ إنسان في مثل هذا العمر يكون معرّضا للموت في أيّ لحظة لأنه وصل إلى أقصى ما تسمح به حيوية النوع الذي ينتمي إليه.
يقول (اوزوالد اشبنجلر): لما نظرت إلى الحضارات جميعاً وجد أن هناك عاملاً مشتركاً، بمثابة القاسم المشترك الذي تنهار الحضارات به، فما هو هذا العامل؟ إذا خرجت المرأة من البيت -إذا تركت المرأة دورها كأم- لتعمل وخالطت الرجال؛ ونافستهم فيما خلقوا له، فإن ذلك من عوامل انهيار الحضارات، فيقول: إن هذا قد وجد في الحضارة اليونانية، ووجد في الحضارة الرومانية، ووجد في الحضارة المجوسية، وهو الآن متحقق في الحضارة الغربية. وهو يكتب هذا الكلام في بداية الثلث الأول من هذا القرن، قبل أن يصل خروج المرأة إلى الحال الذي وصل إليه الآن، وقبل أن يتحقق الأمر الذي ربما لم يجر له على بال. فهو يقرر هذه القاعدة، فالرومان انهارت حضارتهم في الوقت الذي كانت فيه المسارح الرومانية المختلطة في قوة المجد والأبهة والنشاط، فكان ذلك أحد العوامل في انهيارها، وكذلك الحال في الحضارة الغربية، ويستدل على ذلك بشواهد من كلام الأدباء والمؤرخين الأوروبيين في عصره، على أن الحضارة الغربية سيكون مصيرها إلى السقوط والانهيار، وأن أحد هذه العوامل الواضحة الجلية هو خروج المرأة من البيت ومشاركتها للرجل في العمل. وحقيقة المسألة هي: أن الأمة التي تكون المرأة فيها أماً، هي أمةٌ متجددة الشباب بطبيعة الحال، ولهذا يلاحظ أن الأمم الشرقية عامة كـالهند والصين، ممكن أن يتجدد شبابها في أي قرن وفي أي مرحلة من المراحل، أما الضعف التكنولوجي فيمكن أن يعوض وأن يأتي جيل جديد ويستوعب التكنولوجيا وينطلق ويحقق تقدماً حضارياً، لكن الأمة التي تخرج المرأة فيها من البيت وتشارك الرجل في العمل هذه أمة هرمة، ستهرم بعد جيلين أو بعد ثلاثة، فمهما يكن فإنها ستهرم.
يقوم بعض العلماء والمؤرخين بتحليل نشوء وانهيار الحضارات القديمة للبحث عن الأنماط التي قد تعطينا بعض الاستنتاجات والتي بدورها قد تنذرنا بما هو آت. بناء على ذلك، السؤال هو هل هناك أي دليل على أن الغرب هو في طريقه إلى الانهيار؟ وفقا لبيتر تورشين، عالم الأنثروبولوجيا التطورية في جامعة كونيتيكت، هناك بالتأكيد بعض العلامات المثيرة للقلق. عندما كان تورشين باحثا في علوم الأحياء السكاّنية يدرس دورات الحياة للحيوانات المفترسة والفرائس أدرك أن المعادلات التي كان يستخدمها يمكن أن تنطبق أيضا على صعود وسقوط الحضارات القديمة.
في أواخر التسعينيات، بدأ بتطبيق هذه المعادلات على البيانات التاريخية، باحثا عن أنماط تربط العوامل الاجتماعية مثل عدم المساواة في توزيع الثروة وفي الرعاية الصحية بظواهر مثل عدم الاستقرار السياسي. وبالفعل، قام في سياق الحضارات القديمة في مصر الفرعونية والصين وروسيا برصد دورتين متكررتين ترتبطان بفترات منتظمة من الاضطرابات الكبيرة التي غيّرت من مجرى التاريخ.
المتكرّرة الأولى التي استنبطها هي ما يسمّيه “الدورة الدهرية (طويلة الأجل)”، تدوم لمدّة قرنين أو ثلاثة. تبدأ هذه الدورة بمجتمع متساو إلى حد ما، ثم، مع نمو السكان، يبدأ العدد المعروض من العمالة (أي عدّد العمال في سوق العمل) في تجاوز مستوى الطلب وهكذا تصبح العمالة رخيصة فتبدأ النخب الغنية بالتشكّل بالتوازي مع الهبوط في مستويات معيشة العمال. وإذ يزداد انعدام المساواة هذا في المجتمع، تدخل الدورة مرحلة أكثر تدميرا، حيث يساهم بؤس الطبقات الدنيا والتوترات بين النخب نفسها في مفاقمة الاضطراب الاجتماعي، وفي نهاية المطاف، يصل المجتمع إلى الانهيار. واستنبط أيضا دورة ثانية أقصر تدوم 50 سنة وتتكون من جيلين – أحدهما يعيش في سلم واستقرار والآخر يشهد اضطرابات وعدم استقرار.
بالنظر إلى تاريخ الولايات المتحدة، رصد تورشين ذروات من الاضطرابات في أعوام 1870 و 1920 و1970. والأسوأ من ذلك أنه يتنبأ بأن نهاية الدورة الخمسينية الحالية، أي في عام 2020 تقريبا، سوف تتزامن مع الجزء المضطرب من الدورة الدهرية الأطول، مما سوف يتسبب بفترة من الاضطرابات السياسية تكون على الأقل بسوء ما حدث في عام 1970، أي في ذروة حركة الحقوق المدنية والاحتجاجات ضد حرب فيتنام.
هذا التنبؤ يتوافق مع نبوءة أخرى توّصل إليها عام 1997 اثنان من المؤرخين الهواة يدعيان وليام شتراوس ونيل هاو، في كتابهما “التحوّل الرابع: نبوءة أمريكية”. فلقد زعما أن الولايات المتحدة ستدخل في عام 2008 فترة أزمة من شأنها أن تصل إلى ذروتها في عشرينيات القرن الواحد والعشرين، ويقال إن هذا التحليل ترك انطباعا قويا على كبير الاستراتيجيين (السابق) للرئيس الأميركي دونالد ترامب، ستيف بانون.
استنادا إلى تحليل الكاتبة “راتشيل نوير”، فإن عددا كبيرا من العوامل ستتسبب في انهيار الحضارة الغربية وأبرزها عاملين أساسيين وهما الضغط البيئي والطبقية الاقتصادية، فالعامل الأول يتعلق باستنزاف الموارد الطبيعية مثل المياه الجوفية، والتربة، ومصايد الأسماك والغابات، وكلها عوامل يمكن أن تسوء بفعل التغير المناخي.
أما الطبقية الاقتصادية فتعد هي الأخرى عاملا للانهيار، حيث أن النخبة تعمل على جمع الثروات تاركة القليل أو لا شيء للناس العاديين، وتدعمها في المقابل بالعمل، وهو ما سيؤدي إلى انهيارها لأن نسبة الثروة المتاحة للطبقة العاملة غير كافية.
وتوقع خبراء انهيارا حتميا للحضارة الغربية بسبب مشكل المناخ حيث قال يورجن راندرز، الأستاذ المتقاعد لإستراتيجية المناخ بجامعة بي النرويجية للتجارة ومؤلف كتاب: ” 2025 توقع عالمي للأربعين سنة القادمة“: ” لن يكون العالم على قدر الموقف ولن يسعى لحل مشكلة المناخ خلال القرن الجاري، وذلك بكل بساطة لأنَّ حل المشكلة أكثر كلفة بكثير من مواصلة التصرف كالمعتاد. سوف تسوء مشكلة المناخ أكثر فأكثر لأننا لسنا قادرين على الوفاء بالتعهدات التي قطعناها على أنفسنا في اتفاقية باريس واتفاقيات أخرى”.
ونقل التقرير عن هومر ديكسون، رئيس الأنظمة العالمية بكلية بالسيلي للشؤون الدولية في ووترلو كندا، ومؤلف كتابThe Upside of Down قوله: ” فإنَّ من العلامات الأخرى على دخولنا منطقة الخطر زيادة معدل حدوث ما يسميه الخبراء بالنظام اللاخطي، أو التغيرات المفاجئة غير المتوقعة في نظام العالم، مثل الأزمة الاقتصادية التي وقعت عام 2008، أو صعود داعش، أو بريكسيت أو فوز دونالد ترامب في الانتخابات”.
ولفت التقرير أيضا إلى أن الماضي بإمكانه أن يقدم لنا إشارات عن المستقبل، فالرومان بعد انتشارهم عبر البحر المتوسط، شعروا بالقوة التي دفعتهم للتوسع إلى حدود جديدة يصلون إليها برًا، فكانت المواصلات البرية بطيئة ومكلفة، إلا أن الإمبراطورية الرومانية بدأت تتهاوى بعدما وصل التضخم إلى أعلى معدلاته عندما خفضت الحكومة قيمة عملتها الفضية في محاولة منها لتغطية نفقاتها المتزايد.
ويقول هومر ديكسون: ” انهيار المجتمعات الأوروبية سوف يكون مسبوقًا بانسحاب للناس والموارد إلى أوطانهم الأصلية. ذلك أنَّ الدول الأفقر سوف تستمر في التحلل بسبب الصراعات والكوارث الطبيعية، ما سوف ينتج عنه موجات ضخمة من المهاجرين بعيدًا عن هذه المناطق الفاشلة، سعيًا وراء ملاذ آمن في دول أكثر استقرارًا”.
ويضيف: ” ستم تكثيف الإجراءات الأمنية، وستطبق المزيد من السلطوية، وأنماط الحكم الشعبوية”.
وقال راندرز: “بحلول عام 2050، سوف تتطور الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لتصبح مجتمعات ثنائية الطبقات حيث تعيش طبقة صغيرة حياة جيدة في الوقت الذي تتراجع فيه رفاهية الأغلبية. إنَّ ما سوف ينهار على الحقيقة هو العدل”.
واعتبر التقرير أن أوروبا سوف تكون أول من يشعر بهذا الضغط، نظرا لقربها من إفريقيا، ولكونها معبرا إلى الشرق الأوسط، ناهيك عن الاضطرابات السياسية في الشرق، أما الولايات المتحدة فمن المرجح أن تصمد وقتا أطول، نظرا لإحاطة المحيط بها.
سيناريو انهيار الحضارة الغربية… اقتصادياً؟
أتقن علماء الاقتصاد بشكل مذهل تفصيل كل ما يتعلق بالنتائج المادية الإيجابية للنمو الاقتصادي الحديث، وغاصوا في تفنيد كيف أصبحنا أكثر صحة، وأكثر رفاهية، وأكثر سعادة واستمتاعاً بحياتنا. لكن الحديث عن التبعات الأخلاقية لهذا النمو، بقي مقصوراً على فئة ضيقة منهم، رأت أن تلك الديناميكية في مقاربة النمو الاقتصادي، وبالتالي التباهي به، تعد عاملاً جوهرياً ممهداً للسقوط.لا جديد في الخلاصة أعلاه، لكنها لا تزال تشكل انطلاقة أساسية لدى العديد من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع والسياسة البارزين، عند استحضار سيناريوهات انهيار الدول والامبراطوريات، والأسباب التي تؤسس لها. تزخر الصفحات الإلكترونية العربية بروايات دينية تؤكد قرب سقوط أمريكا والغرب، فتحضر فيها أسباب كالفسق والفجور باعتبارها مؤشرات على قرب الانهيار، بينما تحظى تلك السرديات بنسبة من المتابعين والمعجبين والمنظرين. لكن إذا ما وضعنا جانباً ذلك الخطاب الانفعالي، الساذج بمعظمه، ثمة مروحة واسعة من الأسباب وقفت وراء انهيار امبراطوريات وخلافات عريقة، تهدد اليوم دولاً عظمى بالسقوط.بعض تلك الأسباب قد أبصرت النور بالفعل، والبعض الآخر في طريقه للتحقق. يستعرض المقال هنا أبرز النظريات المطروحة حول تلك المسألة.
شهد تاريخ البشرية انهيارات عديدة أثبتت أن أي حضارة، مهما بلغت عظمتها، تبقى غير محصنة من مواطن الضعف التي قد تقود المجتمع إلى نهايته. هكذا بصرف النظر عن مدى “نجاح الأمور” في اللحظة الراهنة، ثمة باب مفتوح دائماً على الهاوية. وفي عالمنا الحالي، غير السوي في جوانب كثيرة، لن يكون مفاجئاً أن تكون البشرية قد اقتربت من ذلك الباب.
ولكن السؤال الذي يشغل الباحثين من هي الحضارة البديلة ؟ هل يشبه الحضارة السابقة ام يكون نقيضه ؟ هل تتغير المعادلات القوة ام فقط تتغير الطبقة الحاكمة ؟ هل الحضارة البديلة لديها الحل لأزمة التدهور الدموقراطي والعدالة ام لا ؟