تحدّيات وموانع تحوّل العلوم الإنسانية وتوليد العلوم الإنسانية الإسلامية
الدكتور مسعود معینی پور
يستلزم إعداد الأرضية المناسبة لخلق عملية وخط توليد العلوم الإنسانية الإسلامية كشف وتحديد الموانع والمخاطر أمام تحقق ذلك والعمل على إزالتها. وتحاول هذه المقالة عرض مقارنةٍ بين الوضع الموجود المُستلهَم والناشىء عن العلوم الغربية والوضع المطلوب للعلوم الإنسانية الإسلامية. وقد تمّ تقسيم الموانع والمخاطر القائمة أمام تحوّل العلوم الإنسانية وتوليد العلوم الإنسانية الإسلامية إلى قسمين نظري وعملي. ويعود السبب في هذا التقسيم إلى التقسيم المشهور للحكمة إلى حكمةٍ نظرية وحكمةٍ عملية.
ويُعتبر أساس موضوع الحكمة النظرية تلك الأمور الطبيعية والنِسب والمفاهيم المعقولة، وأمّا موضوع الحكمة العملية فتدور حول الإرادة الإنسانية والاعتبارات والقيم.
وعندما نتحدّث عن موانعٍ ترتبط بنفس العلم أو منهج ومقاربة العلم، فإننا نتناول ذلك بصفتها موانعَ نظرية؛ وعندما نتناول الموانع ذات الصلة بالسياقات الموضوعية والعملية (التي هي حاصل السلوك والفعل الإنساني) فإننا نتحدّث عن الموانع العملية.
وأمّا عندما نريد التحدّث حول ما هو معروفٌ اليوم باسم العلوم الإنسانية وحول منشأه، فيجب التفتيش عن ذلك في عصر النهضة. إذ منذ أن طُرح الإنسان بصفته موضوع المعرفة وتكوّنت اهتمامات العلماء الأساسية ودراساتهم حول موضوع معرفة الإنسان، تمّ تشييد بناء العلوم الإنسانية الجديدة. وقد وعد بُناة ومؤسسي تلك العلوم بأنّهم سوف يواجهون الجهل والخرافات والتمييز العنصري والظلم الطبقي بواسطة العلوم الإنسانية ويحققون العدالة الاجتماعية لكل المجتمع البشري؛ في الحقيقة، لهذا السبب ازدهرت العلوم الإنسانية حتى تساعد الإنسان في أن يتدخل ليغيّر مصيره.
وقد ظهرت العلوم الإنسانية في خِضم عملية التحرر وتخليص[1] العلوم من الفلسفة والميتافيزيقيا في القرون الوسطى، وخطت نحو ساحة الحياة الواسعة في الدول الصناعية في القرن التاسع عشر وبدأت تنتظم تدريجيًا وتتكامل بما تقتضيه الضرورات الاجتماعية الناشئة عن التصنيع، وهذا ما تتطلّب توليد علم للإجابة على المسائل والمشكلات وتحقيق الملائمة مع الحياة الصناعية والميكانيكية (الآلية). وهكذا، شكّلت الأفكار والاكتشافات التي كان يطرحها الباحثون والمفكرون في هذا المجال، أساس الحياة الجماعية والاقتضاءات والتبادلات الاجتماعية وفي النهاية أساسًا لحل المشكلات والمسائل الإنسانية والاجتماعية؛ وبعبارةٍ أخرى، سادت العلوم الإنسانية عندما شعر عدد من علماء الاجتماع بالحاجة إلى وجوب التعرّف على الإنسان أكثر.
وفي الحقيقة، لقد أتاح طرح قضايا المجتمع وطرق حلّها ضمن مجال منظم وأكاديمي باسم العلوم الإنسانية، الفرصة ليشعر الناس بالمسؤولية اتجاه مصيرهم ومصير مجتمعهم. وفضلًا عن أنّ العلوم الإنسانية في إيران لم تطوِ مرحلة نموها وكمالها بشكلٍ طبيعي ومتناسب مع الاحتياجات والقدرات المحلية والوطنية، فهي أيضًا واجهت تاريخيًا نوعًا من اللامبالاة وعدم الاهتمام. ومنذ تأسيس المؤسسات التعليمية الحديثة في إيران مثل دار الفنون، اعتقد الإيراني في ذلك الوقت (بسبب الهزائم المتتالية في الحروب وخصوصًا في الحرب مع الروس) أنّه يجب أن تلقى مسألة العلوم والتقنيات الاهتمام اللازم وأن تكون على رأس الأولويات، بناءً عليه لم تلقى مسألة معرفة الإنسان والقضايا الاجتماعية المرتبطة به اهتمامًا من قِبل الإيراني أو بالحد الأدنى لم يكن هذا الأمر من ضمن أولوياته؛ على هذا الأساس أوجب التوجّه نحو العلم والتقنية الإفراطي التي تتمتع بها العلوم التجريبية والرياضية والتقنية، إلى عدم الاهتمام والالتفات إلى العلوم الإنسانية. طبعًا، كانت هذه الحالة في ذلك العصر ظاهرةً عامة. ولم تكتسب العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية في أوروبا أهميةً إلا بعد منتصف القرن 19 وبشكلٍ تدريجي.
لذا، بناءً على ما تقدّم لم يكن مصطلح “العلوم الإنسانية” شائعًا في إيران لغاية سنة 1958م، وكان يُستخدم مصطلح “الأدبيات” بدلًا من ذلك وكان يُنظر الى الاختصاصات المعروفة ضمن العلوم الإنسانية نظير علم الاجتماع، علم النفس، التربية والتعليم، الفلسفة، اللغة والآداب وغير ذلك على أنّها اختصاصاتٍ أدبية. وقد استمرت هذه التطورات والتحولات حتى بروز الثورة الإسلامية وطبعًا بالتزامن مع ما كان يجري في إيران، اهتمّ مفكّرون آخرون في دولٍ أخرى مثل باكستان، ماليزيا، العراق وتركيا بالعلوم الإنسانية والتفتوا إلى تأثيرها على مصير الإنسان الجديد والأنظمة الاجتماعية وسعوا في وضع تصميمٍ ومشروعٍ للقيام بتحول العلوم الإنسانية المتناسبة مع مبانيهم ومبادئهم ومجتمعهم.
ولقد شكّلت الثورة الإسلامية في إيران نقطة عطفٍ في هذا المسار، إذ أنّها ثورةٌ تأسست وتكوّنت على أساس الاستفادة القصوى من المباني الإسلامية، وبقيادة عالم بالعلوم الإسلامية والإنسانية وبالتمحوّر حول مواجهة النظام الناشىء عن التفكير الباطل وجنود الجهل. وهكذا كانت هذه الثورة أول إجراء عملي موفق منبثق عن المباني الإسلامية في مقابل النظام السياسي الناشىء عن مباني الحضارة الغربية. وبعد انتصار الثورة، بدأت أول خطوات بحث الثورة الثقافية وتحوّل العلوم الإنسانية لتربية جيل الثورة الإسلامية ولا تزال مستمرة لغاية يومنا هذا. وقد واجهت هذه الخطوات منذ اليوم الأول ولحدّ الآن الكثير من التحدّيات والموانع النظرية والعملية والتي سوف نتعرض لبعضها في هذا البحث.