*بَاطِنُ الأَرْضِ أَفْضَلُ مِن ظَاهِرِهَا*
محمد كوراني
في زمنِ العواصفِ الجيوسياسيةِ العاتيةِ، تَبرزُ ظاهرةُ “حكماء الشيعة المجهولين” كاستجابةٍ حكيمةٍ تستندُ إلى الرؤيةِ التوحيديةِ الشاملة. إنهم رجالٌ ونساءٌ آثروا الخفاءَ اختياراً، يحملون في قلوبهم نورَ الولايةِ، ويُديرون في خفاءٍ مشاريعَ كبرى تُعدّ لزمنِ الظهورِ المبارك. هؤلاء الحكماءُ يتبنّون فلسفةَ “باطنُ الأرضِ أفضلُ من ظاهرِها” منهجاً في العملِ والتدبير، مؤمنين بأنّ الحقائقَ الجوهريةَ تختبئ وراءَ ستارِ الظواهرِ المادية، وأنّ الخيرَ كلَّ الخيرِ في انتظارِ ساعةِ الصفرِ الكونيةِ التي وعدَ بها اللهُ تعالى. عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): (إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ سَكَتُوا فَكَانَ سُكُوتُهُمْ ذِكْراً، ونَظَرُوا فَكَانَ نَظَرُهُمْ عِبْرَةً، ونَطَقُوا فَكَانَ نُطْقُهُمْ حِكْمَةً، ومَشَوْا فَكَانَ مَشْيُهُمْ بَيْنَ النَّاسِ بَرَكَةً، لَوْلَا الآجَالُ الَّتِي قَدْ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ؛ خَوْفاً مِنَ الْعَذَابِ وشَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ)
الأسس العقدية: بين النورانية والتوكل
يستندُ هؤلاء الحكماءُ الشيعة في حركتِهم إلى إيمانٍ راسخٍ بالولايةِ النورانيةِ لأهل البيت عليهم السلام، ينظرون من خلالها إلى الأئمةِ الطاهرين كمشاعلَ هدىً تنيرُ دربَ البشريةِ وتُرشدها إلى برِّ الأمان من الارض الاولى للسماء السابعة. وهم في كلِّ خططِهم وبرامجِهم يتبنّون منهجَ “التوكلِ على الله” الجامعِ بين الأخذِ بالأسبابِ والاعتمادِ على اللهِ تعالى، معتبرين أنّ التدبيرَ البشريَّ يجب أن يكونَ ضمنَ إطارِ التوكلِ لا بديلاً عنه.
السياسة الاجتماعية: نحو مجتمع التوحيد
يعملُ الحكماءُ على تحويلِ المفاهيمِ الإيمانيةِ إلى برامجَ عملٍ مُحكمة، فيُحوّلون مفهومَ “التوكل على الله” إلى استراتيجيةٍ للتخطيطِ المرنِ القائمِ على الأخذِ بالأسبابِ مع الاعتمادِ على الله. ويستلهمون من دروسِ كربلاءَ الخالدةِ روحَ المبادرةِ والثورةِ في بناءِ الشخصيةِ المؤمنةِ القادرةِ على التغيير. كما يُفعّلون مفهومَ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” كمنظومةٍ متكاملةٍ للإصلاحِ المجتمعي، ويبنون تحالفاتٍ مجتمعيةً تعتمدُ على القيمِ الإسلاميةِ المشتركة، ويُطورون آلياتٍ للتعايشِ بين المذاهبِ المختلفةِ ضمن إطارِ “الأخوة الإيمانية”، ويُحيون ثقافةَ “التعارف” القرآني كبديلٍ عن الصراعاتِ المذهبيةِ المدمّرة.
السياسة الاقتصادية: اقتصاد التوكل
يَبني الحكماءُ نظاماً اقتصادياً قائماً على الثقةِ بتدبيرِ اللهِ تعالى، فيُطورون نموذجَ “الاقتصاد التوکلي” الذي يجمعُ بين السعيِ والعملِ والاعتمادِ على الله. ويُنشئون صناديقَ تكافليةً تعتمدُ على الصدقاتِ والأوقافِ كبديلٍ عن الأنظمةِ الربوية، ويُطبّقون مفهومَ “القناعة” كضابطٍ للاستهلاكِ وتحقيقِ الاكتفاءِ الذاتي. ويعتمدون على المواردِ الذاتيةِ مع الثقةِ بتدبيرِ اللهِ في تذليلِ العقبات، ويبنون شراكاتٍ اقتصاديةً استراتيجيةً قائمةً على مبدأ “التكافل” لا “التبعية”، ويُطورون تقنياتٍ محليةً تستندُ إلى الإبداعِ والابتكارِ مع التوكلِ على اللهِ في تخطي التحديات.
السياسة العسكرية: إستراتيجية الصبر والتربص
يلتزمُ الحكماءُ بتحريمِ الحربِ الابتدائيةِ في زمنِ الغيبةِ التزاماً تاماً، فيعتمدون استراتيجيةَ الدفاعِ الشرعيِّ كأساسٍ للعملِ العسكري. ويُطورون قدراتِ الردعِ غيرِ المباشرِ عبرَ تقويةِ الذاتِ وإشغالِ الأعداءِ ببعضهم، ويبنون قواتٍ دفاعيةً متطورةً مع الالتزامِ بالضوابطِ الشرعية. ويوظفون إستراتيجيةَ “أشغل الظالمين بالظالمين” باستخدامِ أدواتِ الحربِ النفسيةِ والإعلاميةِ لتفريقِ جموعِ الأعداء، ويُطورون تقنياتِ الاستخباراتِ والمراقبةِ لاكتشافِ نقاطِ الضعفِ في تحالفاتِ الأعداء، ويبنون تحالفاتٍ تكتيكيةً متغيرةً مع الالتزامِ بالمبادئِ الثابتة.
السنن الإلهية: نواميس الكون في يد الحكيم
يستلهمُ الحكماءُ من السننِ الإلهيةِ منهجاً للعملِ والتدبير، فيستفيدون من سنّةِ “الاتحاد” في بناءِ الوحدةِ الإسلاميةِ على أساسِ العقيدةِ المشتركة، ومن سنّةِ “الاستعداد” في التخطيطِ المتكاملِ للمراحلِ القادمة، ومن سنّةِ “الوحدة” في العملِ على تجسيدِ الوحدةِ الإسلاميةِ في المشاريعِ العملية. ويستخدمون سنّةَ “التقية” كأداةٍ استراتيجيةٍ للحفاظِ على الوجودِ والمكتسبات، ويتعاملون مع سنّةِ “البداء” بالمرونةِ في التخطيطِ والقدرةِ على التكيفِ مع المتغيرات. ويَفهمون الصراعاتِ الدوليةَ كتجلياتٍ لسنّةِ “الصراع بين الحق والباطل” الأزلية، ويَعملون بثقةٍ ضمنَ سنّةِ “غلبة الحق في آخر الزمان”، ويَرَبطون النصرَ بالاستقامةِ على طريقِ الحقِّ وفقَ سنّةِ “نصر الله للمؤمنين”.
القواعد الفقهية: ضوابط الشرع في حركة التاريخ
يَستندُ الحكماءُ في حركتِهم إلى جملةٍ من القواعدِ الفقهيةِ الحاكمة، فيلتزمون بـ”حرمة الحرب الابتدائية في زمن الغيبة” التزاماً تاماً، ويعتمدون استراتيجياتِ الدفاعِ والردعِ بديلاً عن الحروبِ الهجومية. ويستخدمون “التقية في زمن الغيبة” كأداةٍ حكيمةٍ للحفاظِ على المصالحِ العليا، مع التمييزِ بين مواردِ التقيةِ ومواقعِ الجهرِ بالحق. ويتبنّون “قاعدة الثقة بتدبير الله” منهجاً، فيتوكلون على اللهِ في جميعِ الخططِ والبرامج، جامعين بين الأخذِ بالأسبابِ والاعتمادِ على الله. ويُؤمنون إيماناً راسخاً بـ”حكمة الله” المطلقة، فيَرْضون بتدبيرِ اللهِ في جميعِ الظروف. ويَحملون رايةَ “الثأر للإمام الحسين عليه السلام” كمشروعٍ حضاريٍّ لتصحيحِ مسارِ البشرية، ويَعيشون “الأمل بظهور الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه” محركاً للعملِ والبناء، مستعدّين لقيادتِه عبر إعدادِ الأرضيةِ المناسبة.
من بطون الأرض إلى ظهور الحق
إنّ رؤيةَ حكماءِ الشيعةِ تمثلُ مشروعاً متكاملاً يجمعُ بين العملِ الظاهرِ والإعدادِ الباطن، مستندين في ذلك إلى الإيمانِ بالولايةِ النورانيةِ والتوكلِ على اللهِ في جميعِ الشؤون. فهم يؤمنون بأنّ “باطنَ الأرضِ أفضلُ من ظاهرِها” ليس مجردَ شعار، بل هو منهجُ عملٍ يستندُ إلى الحكمةِ والتدبيرِ الإلهي. وإنّ الحكمةَ الإلهيةَ قد تخفي في طياتِها من الخيرِ ما لا تستوعبُه العقولُ البشرية، والحكماءُ هم أولئك الذين يستطيعون قراءةَ بواطنِ الأمور ويستعدّون للمستقبلِ بثقةٍ وتوكلٍ على الله، حتى يتحققَ الوعدُ الإلهيُّ بظهورِ الإمامِ المهديِّ عجل الله فرجه وقيامِ الدولةِ العالميةِ العادلة، حيث تتحول كربلاء من ذكرى دامية إلى مشروع حضاري يهدي البشرية جمعاء.
إن رؤية حكماء الشيعة تمثل مشروعاً حضارياً شاملاً يستلهم من عقيدة الثأر للحسين (ع) طاقة التحول، ومن الولاية التكوينية لأهل البيت (ع) منهج القيادة الحكيمة. إنها مسيرة تبدأ من كربلاء ولكنها لا تتوقف عندها، بل تجعل من عاشوراء منطلقاً لتصحيح مسار البشرية وتقويم حضارتها.
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص: 5)
فالموعد الإلهي آت، والمسيرة مستمرة، والحكمة تقتضي الاستعداد لقيادة المرحلة القادمة من تاريخ البشرية.
#حضارة_إسلامية_مستقبلية_مشرقة
https://t.me/M_Civilization #Merciful_Dignified_Civilization
#حضارة_الرحمة