*الملذّات في حياة الإنسان: طريقٌ نحو الكمال لا نحو الغرق*
يُخطئ كثيرٌ من الناس حين ينظرون إلى الملذّات على أنّها مجرّد نزوات جسدية أو انفعالات وقتيّة؛ إذ يتعاملون معها كخصمٍ للعقل أو عائقٍ أمام الروح، بينما النظرة القرآنية والفلسفية العميقة ترى أنّ الملذّات جزءٌ من بنية الإنسان الوجودية، وأنّها مُنحت له لتكون وسيلةً إلى الكمال لا غايةً بحدّ ذاتها.
فالإنسان كائنٌ ذو طاقات متعدّدة: حسّيّة، وعقلية، وروحية. ولكلّ طاقةٍ منها لذّتها الخاصّة التي تُغذّيها وتُبقيها حيّة. لذّة العين في الجمال، ولذّة السمع في الانسجام، ولذّة العقل في الفهم، ولذّة القلب في الحبّ، ولذّة الروح في القرب من الله. فإذا اختلّ التوازن بينها، أو استبدّت إحداها بسائرها، تحوّلت اللذّة إلى عبوديةٍ جديدة، وضاع الكمال المقصود منها.
🔹 الملذّات: حاجات أم علامات؟
اللذّة في أصلها إشارة إلى تمام النعمة؛ هي لغةُ الفطرة التي تُخبرنا أن شيئًا ما فينا أو حولنا يسير باتّجاه الكمال. حين يأكل الجائع فيلذّ له الطعام، فذلك لأنّ الجسد استعاد توازنه. وحين يأنس القلب بالذكر أو المعرفة، فذلك لأنّ النفس اقتربت من حقيقتها.
فكلّ لذّةٍ في حقيقتها نداءٌ من الكمال، يذكّر الإنسان بأنّ وراء هذه التجربة الجزئية كمالًا أكبر ينتظره.
ولهذا، فإنّ من يفرّ من اللذّة خوفًا من الذنب كمن يفرّ من الدواء لأنّه مرّ، ومن يغرق فيها طلبًا للامتلاء كمن يشرب البحر ليطفئ عطشه. كلاهما ضلّ الطريق إلى الغاية التي من أجلها وُجدت اللذّة: السموّ التدريجي نحو كمال الإنسان الحقّ.
🔹 التوازن بين الملذّات: هندسة النفس السليمة
لكلّ نوعٍ من اللذّة وظيفة معرفية وتربوية:
اللذّة الحسية تحفظ الحياة وتربط الإنسان بعالم الشهادة، وهي أساس التجربة المعيشة التي منها يتعلّم ويدرك.
اللذّة العقلية تُنمّي الفهم وتغذّي ملكة الإدراك، وتفتح الأفق نحو النظام الكوني والمعنى.
اللذّة الروحية تعطي للحياتين معنى الغاية والاتصال بالمطلق، وهي التي تمنح سائر الملذّات معناها الصحيح.
فإذا عاش الإنسان للذة الجسد وحدها، انحدر إلى الحيوانية.
وإذا اكتفى بلذّة الفكر وحدها، تحجّر وانقطع عن الحياة.
وإذا طلب لذّة الروح وحدها من غير توازن، ربما انسلخ عن مسؤوليته في الأرض.
إنّ الكمال الإنساني يتحقّق في الجمع لا في الفصل؛ في التوازن بين الملذّات الثلاث، بحيث تُصبح كلّ واحدةٍ منها سلّمًا إلى ما فوقها، لا حاجزًا يمنع الوصول إليها.
🔹 من لذّة الحسّ إلى لذّة المعرفة
القرآن الكريم لا يُهمل اللذّة، بل يُهذّبها ويرفعها. يدعو الإنسان إلى النظر، والسماع، والتأمّل، والتفكّر، أي إلى تفعيل الحواسّ كلّها في إدراك الجمال والحكمة. لكنّه في الوقت نفسه يربطها بالغاية العليا:
> ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].
فالسمع والبصر والفؤاد ليست أدوات متعةٍ فحسب، بل وسائل شكرٍ ومعرفة، أي طريقًا إلى الكمال الإنساني الذي هو غاية الخلق:
> ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10].
🔹 الملذّة الكبرى: معرفة الجمال الحقّ
في النهاية، اللذّة الحقيقية ليست في المذاق ولا في الصورة ولا في الفكرة، بل في التناسق بين الجسد والعقل والروح في اتجاهٍ واحد نحو الكمال.
فالجمال المادّي يُشير إلى الجمال العقلي، والجمال العقلي يُشير إلى الجمال الإلهي، والإنسان الكامل هو من يرى في كلّ لذّةٍ أثرًا لذلك الجمال الأعلى.
ولهذا، كان العارفون يقولون:
> “مَن ذاق عرف، ومَن عرف اغترف، ومَن اغترف ما ارتوى.”
فالملذّة في أصلها بذرة الشوق إلى الكمال، لا وسيلة الهروب من النقص.
🔹 الملذّات ليست خطيئة
الملذّات ليست خطيئة، بل أدوات تربوية ومعرفية منحها الله للإنسان ليترقّى بها في مدارج الكمال.
الانحراف ليس في وجودها، بل في الانجراف إلى نوعٍ واحدٍ منها، أو في فصلها عن الغاية التي خُلقت لأجلها.
ومن يتوازن فيها، ويجعلها جسورًا نحو النور، فقد حقّق ما أراده الله منه: أن يكون خليفةً في الأرض، وسالكًا في طريق الكمال.