العلوم الإنسانية الغربية لا تنظر إلى قضايانا ولا تستند إلى معارفنا
الامام علي الخامنائي
وجوب إستناد العلوم الإنسانية إلى فلسفتنا وقضايانا
وبالنسبة لأهمية العلوم الإنسانية، فلحسن الحظ تحدّث الأصدقاء اليوم بصورة وافية, وهو الكلام الذي ينبع من قلوبنا. وقد ذكرت مسألة في السنة الماضية فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية، وقد لاحظت أن كلامي قد تلقّاه بعض الأفراد وتعاملوا معه بصورة غير علمية وغير منطقية، وقد استنتجوا من كلماتي أموراً لا تمت إليها بصلة، وكلامي فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية هو ما ذكره أصدقاؤنا هنا وهو صحيحٌ تماماً: العلوم الإنسانية لها أهمية، العلوم الإنسانية الحالية في وطننا ليست وطنية ولا ترتبط بنا ولا تنظر إلى احتياجاتنا ولا تستند إلى فلسفتنا أو معارفنا بل هي ناظرة إلى قضايا أخرى ولا تحل مشاكلنا. غيرنا كان له في هذا المجال كلام وقد ابتكر له حلاً ـ ولا علاقة لنا هنا بمدى صحته ـ وهو غريبٌ عنا من الأساس. فبالطبع، لا يوجد الآن مجال للحديث عن العلوم الإنسانية. في المستقبل إذا أعطانا الله عمراً وتوفيقاً فسوف يكون لي حديث مفصل فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية إذا كان لنا لقاء جامعي آخر مع الأساتذة الجامعيين أو طلاب الجامعات. فعند هذا العبد كلام كثير فيما يتعلق بمسائل العلوم الإنسانية.
ضرورة تفحص مناهج العلوم الإنسانية دوريا
المشاكل التي عرض لها السادة صحيحة تماماً. فأنا أعرف أنه لم يتم تغيير مناهج العلوم الإنسانية رغم مرور كل هذه المدة, وفي الواقع فمن العيب أن يمرّ أكثر من عشرين سنة دون تغييرٍ في المنهج الدراسي للعلم الفلاني, فهذا يدلّ على عدم وجود جرأة للمناقشة, وهذا هو الشيء الذي نخشاه.
لا توجد جرأة للمناقشة, فما كان موجوداً يُدرّس ثم يُعاد تدريسه حتى لو مرّت عشر سنوات أخرى، في حين أنه بحسب تعبير هذا الأخ المحترم فإن العلوم الإنسانية تشهد كل حوالي خمس سنوات تغييرات تكون في بعض الأحيان بنيوية. وبالحد الأدنى هذا ما يجري في بعض العلوم الإنسانية. إنني أشكر هذا الأخ كثيراً، وكذلك الإخوة والأخوات الآخرين والأساتذة المحترمين الذين يفكرون في قضية العلوم الإنسانية.
ضرورة النظر في مناهج العلوم الإنسانية الغربية ومناقشتها
أشار أحد السادة إلى أنه بدلاً من أن نتعامل مع العلوم الإنسانية الحالية بطريقة سلبية، وخاصة المناهج الغربية، فلنتعامل معها بطريقة إيجابية بمعنى أن نطرح المناهج الإسلامية. أجل، فأصل القضية هو هذا ولا شك بذلك. فالمرء لا يستطيع أن يعيش في الفراغ. وعندما تُطرح القضية فإنها تتطلب جواباً، وهو إما أن يكون منهم أو منا غاية الأمر أن ما هو مهم أمران:
الأول: هو هذا الجواب الذي نحمله، فيجب تدوينه ـ وهذا العمل ينبغي أن تقوموا به أنتم، أساتذة الحوزة والجامعات, ومن ينهض به؟ فهو ليس وظيفة الحكومة.
الثاني: إيجاد الشجاعة لمناقشة المنهج الغربي الحالي الناشئ من الليبرالية الديمقراطية, فهذان الأمران ضروريان. وكلاهما بأيديكم.
بيد الأساتذة المتخصصين في العلوم الإنسانية. وما ذُكر حول ضرورة وجود إدارة لهذا الأمر وتشكيلات خاصة محلّ تأمل, ويجب البحث بشأنه وهو كلامٌ صحيحٌ ـ بالحد الأدنى بإطاره الكلي ـ لكن على أي حال العمل هو عمل أساتذة العلوم الإنسانية.
أهمية إنتاج الفكر وضرورة إستناده إلى الفلسفة
أحد السادة ذكر مطلباً مهماً جداً فيما يتعلق بإنتاج العلم, وهو صحيح تماماً. فأساس العلم وقاعدته هي الفلسفة, ولو لم يكن هناك فلسفة لم يوجد علم. ما لم يكن تحليل واستنتاج فلسفي فالعلم سيكون بلا معنى. إن إنتاج الفكر مهم جداً. وبالطبع فإن إنتاج الفكر أصعب من إنتاج العلم. فالمفكرون والنخب الفكرية معرضون للآفات التي هي أقل في ساحة النخب العلمية. لهذا فإن العمل هنا صعب، لكنه مهم جداً.
ما ذكره هنا كان صحيحاً. لقد استفدت منه وأوافق عليه. وفيما يتعلق بتاريخ التفكير العقلي هناك أعمال جارية. فلماذا يقال خلاف ذلك؟ حسناً، إن الفلسفة لنا، ومهدها هو بلدنا. وما هو موجود في بلدنا تحت عنوان الفلسفة هو أقرب بكثير إلى الفلسفة مما هو موجود في الغرب الذي ملأ ضجيجه الآفاق. حسنا، فليفعلوا ما يريدون. وحوزاتنا هي مركز الفلسفة، والذين يتخرجون منها أساتذة كبار. وفي الجامعات أيضا فقد ترسّخ هذا الأمر بحمد الله. لهذا يجب العمل في مجال إنتاج الفكر الذي ينبعث من الرؤية الفلسفية.
من كلمة الإمام الخامنئي في الطلبة الجامعيين مناسبة: حلول شهر رمضان المبارك 23-08-2010
إنتاجنا الثقافي غير متناسب مع مضمون ثقافتنا إلا القليل منه
أحد الإشكالات هو أنه لماذا لا يُعمل على إنتاجاتنا الثقافية المتناسبة مع العدالة. وهذا إشكالٌ أيضاً, وهو صحيحٌ تماماً. فمنتجاتنا الثقافية ليست مناسبة. بالرغم من أن لدينا فنّانين جيّدين وكتّاباً جيدين وممثلين جيدين ولكن تمثيلياتنا التي تتناسب مع مواضيع ثقافتنا قليلة. ومن الضروري أن تعمل الإدارات الثقافية أكثر في هذه المجالات. وبالطبع أنتم تعلمون أن مثل هذه الأعمال لا تُنجز بين ليلة وضحاها. فلا يكون الأمر إذا قلنا الآن: ممتاز، فلننتج الأعمال الثقافية، فيتم التحرك فوراً وبعدها بستة أشهر أو سنة يتم إنتاج عشرة أفلام أو عشرين فيلماً من الأفلام الثورية والثقافية والإسلامية. إن كلّ هذه الأمور تتطلب بُنى تحتية مناسبة ـ كالبنى التحتية الطبيعية ـ وما لم تتوفّر مثل هذه البُنى فلن يكون هناك أي عمل. ومثل هذه البُنى التحتية بعضها ليس متوفراً أبداً، حيث ينبغي تأمينها بواسطة المسؤولين المتعاقبين على مرّ الزمان بواسطة الحكومات المتعاقبة, بيد أن بعضها تمّ تخريبه في بعض الحكومات . ففي بعض الحكومات، لم يكتفوا بعدم تأمين بعض البُنى التحتية الاعتقادية والثقافية بل تمّ تخريبها! وها نحن هنا علينا أن نعيدها إلى جادة الصواب. ولكنّ الإشكال واردٌ, وهو إشكالي أيضاً على الإذاعة والتلفزيون ووزارة الإرشاد ومنظّمة الإعلام ومديرية الفنون. فنحن دائما نلتقي ونطالبهم. فألتقي بهم وأتباحث معهم وأناقشهم ويأتي كل منا بدلائله . إن بعض الأعمال التي ينبغي أن يقوم بها المسؤولون التنفيذيون ؛ للأسف، فإنني أضطر إلى أخذها على عاتقي. في تلك الآونة الأخيرة كان لنا لقاءات عديدة مع المسؤولين الثقافيين فيما يتعلق بهذه القضايا الفنية والسينمائية والفنون التمثيلية وغيرها. التقينا وتباحثنا وتحدثنا, ونحن نأمل بمشيئة الله أن نصل إلى أهدافٍ جيّدة. وعلى أي حال فإن مطالبتكم مطالبة صحيحة.
لا ضير في إختلافٌ الآراء حول القضايا النظرية والإجتماعية
جاء الشباب الأعزاء وذكروا مطالب في جميع المجالات. أولاً، كان هناك بين هؤلاء الإخوة والأخوات اختلافٌ في الآراء وهو بنظري مشوّقٌ جداً, هذا بذاته جيّدٌ. فطرح الآراء المختلفة في المجال الواحد مع أدلتها ومؤيداتها يمثّل مجالاً للتفكير والتعمّق والغوص للوصول إلى الحقيقة.
فلا تتوقّعوا الآن أن أدلي بكلام قاطع بشأن الأمور التي هي موضع خلاف أو سئلت عنها ـ وهي اختلافات وجهات النظر الموجودة في الجامعة ـ ليكون كلامي بذلك فصل الخطاب . كلا, بالطبع، هناك موارد يلزم فيها فصل الخطاب حيث على القائد أو من هو في موقع فصل الخطاب أن يتحدث, ولكن هذه الأمور ليست من هذا المورد, فهي مطالب في أغلبها لا تحتاج إلى فصل الخطاب.
هناك اختلافٌ في الرأي, حسناً، فليكن, فما العيب في ذلك؟ لقد قلت في ذلك اليوم لمسؤولي الحكومة عندما كانوا هنا، إنه إذا كان في موردٍ خاص اختلافٌ في الرأي فهذا ليس كارثة, ما العيب في ذلك؟ في بعض الأحيان يكون البحث فيما إذا كان علينا أن نطلق النار على العدو أم لا, وهنا يكون الاختلاف في الرأي مشكلة. لكن في بعض الأحيان لا يكون الأمر كذلك،
كما في القضايا النظرية أو القضايا الاجتماعية العامة, فمثل هذا الاختلاف في الآراء بنظري مشوّقٌ, وأنتم كشباب ينبغي أن تتوقوا لهذه الآراء المختلفة والاستدلالات المتنوعة أكثر من توق من يكون في سنّي من مرحلة الشيخوخة.
لتدوين العلوم الإنسانية وفقا للمباني الإسلامية
وفيما يتعلق بالعلوم الإنسانية ما ذكرته السيدتان هنا هو كلامٌ صحيح، والإشكالات التي طُرحت واردة وهذا هو كلامنا أيضاً، وهذا ما كنت أتابعه وقد ذكرته قبل سنتين. بالطبع إن ما ذكرناه يعني أن على الأساتذة وأصحاب الرأي والمحققين أن يسعوا لتدوين العلوم الإنسانية المتطابقة مع المباني الإسلامية, فلا تكون العلوم الإنسانية مبنية على أساس الفلسفات المادية الخاطئة, مثلما هو وضع العلوم الإنسانية الغربية اليوم.
في النهاية إذا كانت العلوم السياسية أو الاقتصادية أو الفلسفة أو الإدارة وسائر العلوم الإنسانية مبنية على الرؤية المادية للكون، وهي على أساس القيم المادية، فبالطبع لن تتمكن من تأمين مطالب وأهداف المجتمع الإسلامي والمؤمن بالمعارف الإسلامية.
من كلمة الإمام الخامنئي في أهالي إصفهان بمناسبة عيد الأضحى المبارك 17-11-2010
لا حياة ولا تقدم للشعب من غير جد وجهاد
ما من شعب يصل إلى غاياته بالقعود والأكل والنوم والاعتماد على الأجانب وتسويد الأهواء والنزوات في الحياة.
الذين يطلقون الكلام والآراء السلبية عند الحديث عن الدفاع المقدس، ويغمزون ويلمزون عند الحديث عن الشهادة، ويقطبون وجوههم إذا جرى الكلام عن المعاقين والمضحين، ويبتسمون استهزاء عند الحديث عن التقدم العلمي وتحطيم حدود العلم، ويهزون رؤوسهم عند الكلام عن أجهزة الطرد المركزي في مراكز التخصيب النووي ويقولون هذا أمر غير ممكن، هؤلاء لا يفهمون شيئاً عن حركة الشعب. الذين تربّوا على التربية الخاطئة والأخلاق الفاسدة الطاغوتية لا يدركون شيئاً عن تأثير الإيمان والتحرك والجهاد.
حينما يؤمن الشعب بالجهاد فسوف يتقدم على كافة الأصعدة. وليس الجهاد مجرد حمل البنادق، إنما الجهاد هو أن يرى الإنسان نفسه دوماً في ساحة النشاط والحركة والكفاح ضد العقبات والموانع والعراقيل، ويشعر بالواجب والالتزام. هذا هو الجهاد الإسلامي.
الجهاد أحياناً بالنفس وأحياناً بالمال وأحياناً بالفكر وأحياناً برفع الشعارات وأحياناً بالنـزول إلى الشوارع وأحياناً بالحضور عند صناديق الاقتراع.. هذا هو الجهاد في سبيل الله وهو ما يحقق الرشد والنمو للشعب، ويمنحه الطراوة والتوثب والحركية والأمل، ويتقدم به إلى الأمام.
من كلمة الإمام الخامنئي في منطقة عمليات الفتح المبين ــ محافظة خوزستان 31-03-2010
الإيمان يوفر عناصر المِنعة والنصر
أريد أن أقول لكم: أيها الشباب الأعزاء: هكذا هو الحال دوماً، عزيمتكم الراسخة ووعيكم وبصيرتكم وصمودكم وحسمكم وشجاعتكم بوسعها دوماً فرض الهزيمة على كل الأعداء مهما كانوا في ظاهرهم كباراً وأقوياء. وهكذا هو الحال اليوم أيضاً. وكذلك سيكون يوم غد. إذا أراد الشعب الإيراني أن يبلغ ذروة السعادة في الدنيا والآخرة – وهو يريد ذلك وسوف يبلغه إن شاء الله – فالطريق إلى ذلك عبارة عن الشجاعة، والبصيرة، والتدبير، والعزيمة الراسخة، والإرادة القوية عند النساء والرجال، وكل هذا يعتمد على الإيمان الإسلامي. الشيء الذي يضمن هذه العزيمة والهمّة الراسخة لدى جنودنا هو إيمانهم القلبي. كانوا مؤمنين بالدين، والله، والقيامة، والمسؤولية الإنسانية مقابل الله. إذا توفّر هذا الإيمان في أي شعب وفي أي مجتمع فسيجعله منيعاً قوياً يستطيع المقاومة.
من كلمة الإمام الخامنئي في ملتقى أساتذة الجامعات في شهر رمضان المبارك 05-09-2010
طهارة نفوس الأساتذة والعلماء أكثر تأثيرا في سلوك الشباب
ها هو شهر رمضان في أيامه الأخيرة حيث تسيطر على قلب شعبنا وروحه ـ وأنتم من جملتهم ـ حالة العبادة والخشوع والصفاء, إن شاء الله. لقد قرأتم في أدعية هذه الأيام والليالي:
“اللهم وهذه أيام شهر رمضان قد انقضت ولياليه قد تصرّمت”1.
ومع انقضائها لا نعلم ما أدركنا من رحمتك وعنايتك يا الله في هذه الليالي والأيام التي مضت وما هو مقدار استفادتنا، ونقول: “إن لم تكن رضيت عنا فالآن فارضَ عنا”. حسناً، إن طهارة النفس وصفاءها أمرٌ مهمٌّ ولازمٌ للجميع, وله تأثيرٌ في حياة الجميع, ولكنه بنظري أكثر أهمية وفائدة ونفعاً للأساتذة والعلماء. وذلك أولاً: لأنكم أساتذة فإنّ سلوككم وتصرّفكم له تأثيرٌ أكبر من كلامكم في تكوين شخصية التلميذ والشاب ـ فغالباً ما يكون الأمر كذلك ـ بحيث أنه لو كان كلامكم سبباً لسوقه نحو جهة ما ولم يكن سلوككم مصاحباً لكلامكم في هذا التوجيه، فإن هذا السلوك والتصرف سيؤثر في مخاطبكم وتلميذكم، أي ذلك المتعلم والشاب. فهذا أحد أبعاد أهمية صفاء النفس. لو تمتّع أستاذنا بالروحية المعنوية الصافية فإنّه سينوّر أجواء صفّه وقلوب المتعلمين. فنحن نحتاج إلى هذا الأمر.
طهارة النفس تضع العلم في وجهته الصحيحة
وبالإضافة إلى ذلك فأنتم علماء, لهذا فإن العلم إذا صوحب بالنورانية فإنه سيجد وجهته الصحيحة.
هذه المطالب التي ذكرتموها أيها الأعزاء، وما نراه من موانع ومشاكل وإشكالات في المجالات المختلفة حيث ذكرتم بعضها، فإنّ الكثير منها إنما يحصل لأن العلم لا يتحرك بالاتجاه الصحيح المرسوم له ـ وفق السنّة الإلهية. فصفاء النفس هذا، وهذه النورانية تعين العالم ليوجّه علمه في الإتجاه الصحيح ويتقدّم.
فلنعلم قدر هذه الأيام والليالي، لقد صمتم أكثر من عشرين يوماً وكنتم بحمد الله موفقين وباليقين استفدتم من الأنوار الملكوتية لهذه الأيام والليالي, فاسعوا فيما بقي من هذا الشهر إلى أن تملأوا مهما استطعتم وجودكم من شلال اللطف والصفاء الإلهي الذي ينهمر علينا.
من كلمة الإمام الخامنئي أمام رؤساء السلطات الثلاث وجمع كبير من المسؤولين، بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك 18-08-2010
من موارد التقوى: بسط العدل وإصلاح ذات البين
إن ما نسعى إليه في شهر رمضان المبارك يكون باتجاه التقوى. وقد دوّنت في باب التقوى جملة أذكرها هنا: ففي أغلب الأوقات عندما تُذكر التقوى ينصرف ذهن الإنسان إلى رعاية ظواهر الشرع والمحرمات والواجبات المطروحة أمامنا, أن نصلّي وندفع الحقوق الشرعية، أن نصوم ولا نكذب. ولا شك بأن هذه الأمور مهمّة، لكن للتقوى أبعاداً أخرى غالباً ما نغفل عنها, ففي دعاء مكارم الأخلاق يوجد فقرة تبيّن هذه الأبعاد: “اللهم صلِّ على محمد وآله وحلّني بحلية الصالحين وألبسني زينة المتقين”، فما هو لباس المتقين؟ فيأتي الشرح الملفت: “في بسط العدل وكظم الغيظ وإطفاء النائرة” في إخماد الغضب وإطفاء النيران، تلك النيران التي تندلع بين أفراد المجتمع، “وضّم أهل الفرقة” أولئك الذين كانوا منكم وانفصلوا عنكم اسعوا إلى أن تستعيدوهم.
فهذه من موارد التقوى التي أشير إليها في دعاء مكارم الأخلاق، الدعاء العشرين للصحيفة السجادية المباركة. وهذا الدعاء دعاء مهمٌّ جداً. وفي رأيي أنه يجب علينا جميعاً وخصوصاً العاملين أن نقرأ هذا الدعاء وندقق في مضامينه الملهمة، “وإصلاح ذات البين”، فبدلاً من إشعال النيران والإذاعة وإلقاء الخلاف والتفرقة نقوم بإصلاح ذات البين بين الإخوة المؤمنين والمسلمين ونوجد الإئتلاف, هذه هي التقوى.
لاحظوا: إن هذه كلها تُعدّ من قضايانا المعاصرة: إشاعة العدل وبسطه في القضاء والاقتصاد والاختيار وتوزيع الثروات والفرص الموجودة في البلاد بين الجماعات، هذه جميعها قضايا مهمة جداً، وهي مورد حاجتنا. فبسط العدل يُعدّ أرفع أنواع التقوى، فهو أعلى من صلاة جيدة وصوم يوم في صيف حار. فقد ورد في حديثٍ: إن كل أميرٍ ـ الأمير يُقصد به أنتم, كل من يدير جهازاً ويكون حكمه نافذاً فيه ـ يحكم يوماً واحداً بالعدل فكأنه قد عبد الله سبعين سنة, ومثل هذه القضايا الفائقة الأهمية تدلنا على أهمية العدالة والسلوك العادل.
وكظم الغيظ تجاه الأصدقاء ـ أما مقابل الأعداء فيجب أن نتحلى بالغيظ (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِم)2، ففي مقابل ذاك العدو الذي يخالف هويتكم ووجودكم يكون الغضب مقدساً ولا إشكال فيه. أما في جمع المؤمنين وبين أولئك الذين أُمرنا أن نعاملهم وفق السلوك الإسلامي فلا ينبغي أن يكون هناك غيظٌ وغضب. فالغضب يضر بصاحبه.
واتخاذ القرار مع الغضب مضرّ، وكذلك الكلام والعمل مع الغضب فإنه غالباً ما يؤدي إلى الوقوع في الأخطاء والشبهات, وهو أمرٌ ذائعٌ بيننا كثيراً وللأسف. فاجتناب هذا الغضب الذي يؤدي إلى الانحراف والخطأ في الفكر والعمل يُعدّ من موارد التقوى. “وكظم الغيظ”.
العمل الآخر هو “إطفاء النائرة”، فبعضهم يشعل النيران السياسية والفئوية، وكأنه مكلف بهذا العمل. أرى داخل بلدنا جماعة همّهم أن يُوجِدوا الاختلافات والعداوات بين التيارات المختلفة وكأنهم يستمتعون بذلك، وهذا خلاف التقوى لأن التقوى تعني إطفاء النائرة. فمثلما أنكم تطفئون النيران المندلعة في المحل والمكان المادي فعليكم أن تسيطروا على النيران التي تندلع في الأجواء الإنسانية والمعنوية والأخلاقية وتطفئوها، وهكذا: “ضمّ أهل الفرقة”.
لقد قلنا بجذب الحدّ الأكثر ودفع الحد الأقل. بالطبع المعيار والميزان هو الأصول والقيم. فالناس ليسوا سواء بلحاظ الإيمان. ففينا من هو ضعيف الإيمان ومن هو أقوى إيماناً. وعلينا أن نسعى، فلا يصح أن ندفع ضعيف الإيمان، ولا يصح أن نركّز على الأقوى إيماناً, كلّا، فضعفاء الإيمان ينبغي أن يحوزوا على عنايتنا. فالذين يعدّون أنفسهم أقوياء ينبغي أن يعتنوا بمن يرونه ضعيفاً ويراعوه ولا يدفعوه. الذين كانوا من الجماعة لكنهم بسبب الاشتباه والغفلة ابتعدوا وانفصلوا نعيدهم إلينا, ننصحهم، نبين لهم الطريق، ونستعيدهم. وهذه قضايا أساسية.
من كلمة الإمام الخامنئي في الطلبة الجامعيين الإيرانيين بقم بمناسبة زيارة الإمام الخامنئي دام ظله لمدينة قم 26-10-2010
البصيرة بوصلة تدل على الطريق ومرتكزها الأساسي “الرؤية الكونية التوحيدية”
في مجال البصيرة، لقد تكلّمت كثيراً في السنوات الماضية وقبلها, الآخرون قالوا أيضا الكثير, وقد لاحظت أن بعض الشباب قد قاموا بأعمالٍ جيدة في هذا المجال. أنا أريد أن أؤكد مجدّداً على مسألة البصيرة. هذا التأكيد ينبع من أنّكم أيها الشباب أنتم المخاطَبون وأنتم فرسان الميدان، العمل يقع على كواهلكم، انطلقوا نحو الأعمال والتخطيط والبرمجة التي ترتبط بتحصيل البصيرة, قوموا بتأمين هذه الحاجة الماسة.
البصيرة هي البوصلة وكشّاف النور
البصيرة هي كشّاف النور, البصيرة هي البوصلة وهي الدليل إلى القبلة. إذا تحرّك الإنسان في الصحراء بدون بوصلة، فمن الممكن أن يصل بالصدفة إلى مكان ما، لكن الاحتمال ضعيف, أما الاحتمال الأكبر فهو أن يتعرّض الإنسان لمشقّاتٍ ومتاعب كثيرة بسبب الضياع والحيرة.
وجود البوصلة ضروريٌّ, وخاصّة إن كان هناك عدوٌّ مقابل الإنسان. إن لم يكن معكم بوصلة، قد تجدون أنفسكم تحت محاصرة العدو وليس معكم العدّة اللازمة والتجهيزات المطلوبة للمواجهة, عندها لن تستطيعوا تحريك ساكنٍ. البصيرة إذن، هي البوصلة وكشّاف النور. في الفضاء المظلم البصيرة هي المنّور. البصيرة تدلّنا على الطريق.
لتحقيق النجاح الكامل، البصيرة هي شرطٌ لازمٌ ولكنّها ليست شرطاً كافياً. بتعبيرنا نحن طلّاب العلوم الدينية، هي ليست علّة تامّة للنجاح.
الرؤية الكونية التوحيدية المرتكز الأساسي للبصيرة
هناك بصيرة يحصل عليها الإنسان من خلال اختياره للرؤية الكونية وفهمه الأساس للمفاهيم التوحيدية وعبر نظرته التوحيدية إلى عالم الطبيعة. الفرق بين النظرة التوحيدية والنظرة المادية هو في التالي: في النظرة التوحيدية، هذا العالم هو مجموعة منظّمة، مجموعة ذات قانون، طبيعة هادفة, نحن أيضاً كجزء من الطبيعة، وجودنا، خَلْقُنا وحياتنا لها هدف, لم نُخلق عبثاً في هذه الدنيا. هذه لازمة النظرة التوحيدية.
معنى الاعتقاد بوجود إله عالم وقادر هو أنه حينما فهمنا أن لدينا هدفاً، ننهض للبحث عن ذلك الهدف. هذا البحث بحدّ ذاته هو جهد مؤمّل. نسعى لكي نجد ذلك الهدف. بعد أن نجده ونفهم ما هو الهدف، يبدأ السعي للوصول إليه. في هذه الحالة، فإن كل حياة الإنسان تصبح سعياً, سعيٌ هادف ومعروف الاتجاه. من ناحية أخرى نعرف أيضاً أنه عبر النظرة التوحيدية، كل نوع من السعي والمجاهدة في سبيل الهدف، يوصل الإنسان حتماً إلى نتيجة. هذه النتائج ذات مراتب. وهي توصل الإنسان يقيناً إلى النتيجة المطلوبة. وعندها فلا معنى لشيء باسم اليأس والضياع والاكتئاب في حياة الإنسان. عندما تعرفون أن وجودكم وخلقكم وحياتكم وتنفّسكم يرتبط بتحقيق هدف فستتحرّكون وراء هذا الهدف، وستبذلون الغالي والنفيس للوصول إليه.
إن هذا السعي نفسه له أجرٌ وثواب عند الله تعالى والذي هو خالق الوجود. عندما تصلون إلى أية نقطة فإنكم في الواقع قد وصلتم للهدف. في النظرة الإسلامية، الخسارة والضرر لا يمكن تصوّرهما بالنسبة للمؤمن. حيث قال “ما لنا إلا إحدى الحسنيين”، واحدة من اثنتين كلاهما أحسن, إما أن نموت في سبيل الله، وهذه حسنى, وإما أن نزيل العدو من الطريق، وهذه حسنى أيضاً. فهنا لا وجود للضرر أبداً.
في النقطة المقابلة تماماً تقع النظرة المادية. تعتبر النظرة المادية أن خلق الإنسان ووجوده في العالم لا هدف له, فالإنسان فيها لا يعرف لماذا جاء إلى الدنيا. بالطبع، هو يحدّد لنفسه أهدافاً في الدنيا ـ كأن يصل للمال، أن يصل للحب، أن يصل للمنصب، أن يصل للذّات الجسدية أو اللذات العلمية, يمكنه أن يحدّد لنفسه أهدافاً كهذه ـ لكن أي منها ليس هدفاً طبيعياً، ليس ملازماً لوجوده. عندما لا يكون هناك اعتقاد بالله, فالأخلاقيات أيضاً تصبح بلا معنى, العدالة بلا معنى, ولا معنى لشيء سوى اللذة والنفع الشخصي. إذا اصطدمت قدم الإنسان بحجر وتأذّى في طريق الوصول إلى نفعه الشخصي يكون قد تضرّر وخسر. إن لم يصل للربح، إن لم يستطع أن يسعى، يأتي دور اليأس والانتحار وغيرهما من الأعمال غير المعقولة. لاحظوا إذن الفرق بين النظرة التوحيدية والنظرة المادية، بين المعرفة الإلهية والمعرفة المادية. هذه هي أهم ركائز البصيرة.
عندما يدخل الإنسان في صراع على أساس هذه النظرة، فإن هذا الصراع هو جهد مقدس, إذا قام بحرب مسلّحة فإن الأمر كذلك. الصراع في الأصل ليس قائماً على سوء الظن وسوء النوايا. الصراع يهدف إلى أن تصل الإنسانية ـ وليس فقط هذا الإنسان نفسه ـ إلى الخير والكمال والرفاهية والتكامل. بهذه النظرة تكتسب الحياة وجهاً جميلاً وتصبح الحركة في هذا الميدان الواسع عملاً لذيذاً. يزول تعب الإنسان بذكر الله تعالى وذكر الهدف. هذا هو المرتكز الأساس للمعرفة, المرتكز الأساس للبصيرة. هذه البصيرة هي أمرٌ مطلوبٌ ولازمٌ جداً, هذا ما يجب أن نوفّره في أنفسنا. في الحقيقة فإن البصيرة هي أرضية جميع الجهود والمساعي الإنسانية في المجتمع.
البصيرة تفكر وتدبر
فضلاً عن هذا المستوى الواسع والطبقة العميقة للبصيرة، في الحوادث المختلفة أيضاً من الممكن للإنسان أن يتحلّى بالبصيرة أو يفقد البصيرة. هذه البصيرة بأي معنى؟ ما معنى أن يحصل على البصيرة؟ كيف يمكن أن يجدها؟ هذه البصيرة الواردة في الروايات والتي تمّ التأكيد عليها أيضاً في كلمات أمير المؤمنين، تعني أن يتدبّر الإنسان في الحوادث التي تجري من حوله والحوادث التي تجري معه وترتبط به, يتدبّر ويسعى كي لا يمرّ على الحوادث مرور الكرام وبشكل سطحي كالعوام, وبتعبير الإمام أمير المؤمنين، أن يعتبر: “رحم الله امرءاً تفكّر فاعتبر”3، يفكّر وعلى أساس هذا الفكر يعتبر ويأخذ العبر. أي أنّه يزن المسائل بالتدبر: (اعتبر فأبصر). بهذا الميزان يجد البصيرة. النظر الصحيح إلى الحوادث، والتدبّر فيها، يوجد البصيرة عند الإنسان. أي أنّه يوجد قدرة على الرؤية والتبصر لدى الإنسان ويفتح عينيه على الحقيقة.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في موضع آخر: “فإنّما البصير من سمع فتفكّر ونظر فأبصر”4، البصير هو الذي يسمع، لا يغلق أذنيه, وعندما يرى يفكّر، لا يمكن للإنسان أن يقبل بأمر أو يرفضه بمجرّد سماعه, ينبغي التفكّر “البصير من سمع فتفكّر ونظر فأبصر”5، ينظر ولا يغلق عينيه. مشكلة الكثير من الذين زلّت أقدامهم وهووا في منزلق انعدام البصيرة، هي أنّهم نظروا ثم أغلقوا أعينهم عن الحقائق الواضحة. على الإنسان أن ينظر, وعندها سيرى. في الكثير من الأوقات نحن لسنا مستعدّين لكي ننظر إلى بعض الأشياء. الإنسان يرى بعض المنحرفين الذين يرفضون أن ينظروا أصلاً. الآن لن نتوقف عن العدو العنيد ـ فيما بعد سأتحدّث عنه (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)6. هناك بعضٌ ممن عندهم دافع وسبب للعداء ويواجهون بعناد. حسناً؛ هؤلاء أعداء. بحثنا الآن ليس حولهم، البحث هو عنّي وعنكم حيث إننا في الساحة. إن أردنا أن نتحلّى بالبصيرة علينا أن نفتح أعيننا؛ أن نبصر, هناك أشياء يمكن رؤيتها. إذا تجاوزناها بشكل سطحي ولم نلتفت إليها، نكون قد أخطأنا بالطبع.
ب ــ شواهد على فقدان البصيرة
أ ــ موقف الخوارج من خدعة “رفع المصاحف”
أضرب لكم مثلاً من التاريخ. في حرب صفّين كان جيش معاوية قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة, الحيلة التي استعملوها للنجاة من الخسارة الحتمية هي رفع المصاحف على الرماح والتقدّم إلى وسط الميدان, بما معناه أن القرآن هو الحاكم بيننا وبينكم فتعالوا نتحاكم إليه ونطبّق ما يقوله القرآن. حسناً، هذا عمل جيد عند العوام. بعضهم، ممّن عُرف فيما بعد باسم الخوارج وشهروا سيوفهم بوجه أمير المؤمنين، كان في جيش أمير المؤمنين وشاهد المصاحف فوق الرماح، قال إنها فكرة جيدة, فهؤلاء لا يطلبون أمراً سيئاً, بل يقولون تعالوا إلى القرآن ليحكم بيننا. هنا كانت الخديعة, وهنا تزلّ قدم الإنسان لأنّه لم ينظر إلى ما تحت قدمه. الناس لا يسامحون الذي انزلق وسقط أرضاً إن كان لم ينظر إلى ما تحت قدميه. هؤلاء لم ينظروا. لو كانوا يريدون أن يعرفوا الحقيقة، الحقيقة كانت أمام أعينهم. هذا الذي يدعوهم للرضى بحكم القرآن هو شخص خرج لقتال الإمام المبايَع له والمفترض الطاعة. كيف يكون معتقداً بالقرآن؟ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، عدا عن كونه بالنسبة لنا منصوصاً عليه ومنصوباً من قبل الرسول، فإن من لا يقبل بذلك، بلا شك يقبل بأن جميع الناس قد بايعوا الإمام علياً عليه السلام بعد وفاة الخليفة الثالث، وبالتالي فإنهم يقبلون بخلافته, فقد صار إماماً وحاكماً مفترض الطاعة في المجتمع الإسلامي.
من الواجب على جميع المسلمين أن يتصدّوا لكل من يحاربه ويشهر السيف بوجهه. حسناً، إن كان هذا الذي رفع المصحف على الرماح، يعتقد حقاً بالقرآن، فالقرآن يقول له لماذا تحارب عليّاً؟
يجب عليه أن يرفع يديه عالياً ليقول نحن لن نقاتل, يضع سيفه في غمده. هذا ما كان يجب أن يراه هؤلاء، ما كان يجب أن يفهموه. هل كان هذا الأمر معقداً؟ هل كان معضلاً لا يمكن فهمه؟ لقد قصّروا. هذا يصبح انعداماً للبصيرة. لو أنّهم تدبّروا وتأمّلوا قليلاً, لكانوا فهموا هذه الحقيقة, لأنهم هم أنفسهم كانوا أصحاب أمير المؤمنين في المدينة, وكانوا قد شاهدوا أن بعض رجال معاوية كان مؤثّراً في قتل عثمان, ساعد في قتل عثمان, في الوقت نفسه رفع قميص عثمان طلباً للثأر. هم من قام بهذا العمل، هم مقصّرون، لكنّهم كانوا يبحثون عن المقصّر. انظروا، عدم البصيرة هنا ناشئ عن عدم الدقّة, عدم النظر, عن إغماض العينين أمام حقيقة واضحة.
ب ــ موقف بعض الداخل من مكيدة “تزويرالإنتخابات”
في قضايا الفتنة الأخيرة هذه، أخطأ بعضهم بسبب عدم البصيرة. حصل ادّعاء بالتزوير في انتخابات حاشدة وعظيمة. حسناً، طريقه واضح. إذا اعتقد أحدٌ أنّ هناك تزوير، عليه أولاً أن يستدلّ، أن يقدّم دليلاً على وجود التزوير, وبعد أن يقدّم دليلاً أو لا يقدّم، القانون هو الذي يحدّد طريقة المتابعة؛ يمكنه أن يتقدّم بشكوى. ينبغي التحقيق وإعادة النظر؛ يأتي أشخاصٌ محايدون لينظروا كي يتبينوا وجود التزوير أو عدمه, هذا هو سبيله الوحيد. إن لم يرضخ شخصٌ للقانون ولم يقبل به ـ مع أني ساعدت كثيراً: فقد قمت بتمديد المهلة القانونية, حتى قلنا لهؤلاء فليأتوا ويعيدوا فرز الأصوات أمام عدسات التلفاز ـ يكون قد تمرّد. (الجمهور يردد شعارات)؛ يرجى الانتباه. ليس الهدف أن نعطي رأينا بالقضايا الماضية, نحن هنا نضرب مثلاً. إذن، اكتساب البصيرة ليس بالأمر الصعب. إذا نظرتم فسترون أنّ هناك طريقاً معقولاً وقانونياً والذي يتهرّب منه ويقوم بعمل يسبّب الأضرار للبلد؛ ضربة للمصالح الوطنية. حسناً، من الواضح أنّ هذا الشخص مدان بالمعايير العادلة وغير المتحيزة. هذا شيء واضح. فلاحظوا إذن, إن المطالبة بالبصيرة ليست مطالبة بأمرٍ صعب وغير ممكن. اكتساب البصيرة ليس أمراً شاقاً. اكتساب البصيرة يحتاج فقط إلى الحدّ الذي لا يكون فيه الإنسان أسيراً للمصائد والشباك المختلفة من الصداقات والعداوات وأهواء النفس والأحكام المسبقة. يكفي الإنسان هذا الحد،ّ بأن ينظر ويتدبّر ليجد الحقيقة. المطالبة بالبصيرة هي هذه المطالبة بالتدبّر, النظر وليس أكثر. وعلى هذا يمكن أن يفهم أن تحصيل البصيرة هو عمل الجميع, الجميع يمكنهم إيجاد البصيرة. بعضهم يقع في الغفلة، ليس بسبب العناد ولا بسبب سوء النوايا. مع أن الإنسان يحب نفسه كثيراً ولكنّه أحياناً يغفل للحظة أثناء قيادة السيارة، لحظة من السهو، من غلبة النعاس، تعقبها خسارة لا تعوّض. العثرات وزلّات الأقدام التي تحصل في هذا المجال لا يمكن عدّها ذنوباً, ولكن إذا استمرّت وتتابعت، فهذا إذاً فقدان للبصيرة، وهذا ليس مقبولاً بعد الآن.
خلاف للرأسمالية والإشتراكية: علاقة العامل برب العمل في الإسلام علاقة إنسانية
تقدير الإسلام للعامل
وما يبيّنه الإسلام فيما يتعلّق بالعامل ـ بالمعنى العام للكلمة ـ ليس مجاملة وليس لأجل الإرضاء. فعندما ينحني نبي الإسلام العظيم ويقبّل يد عاملٍ فلا ينبغي حمل هذا الفعل على مجرد المجاملة, إنّه تأسيسٌ ثقافي، ويُعدّ درساً, وهذا كله من أجل تقدير قبضة العامل الماهر وعضده النشيط في الأمة الإسلامية وعلى مرّ الزمان والتاريخ. إننا ننظر بهذه العين إلى شريحة العمّال. العامل العادي، العامل الماهر، المهندس، المصمّم، وكل أولئك الذين يبذلون الجهود في كل مراحل الإنتاج هم مشمولون بهذا التكريم والإجلال في الإسلام.
جهد العامل في الإسلام جهاد
إن مطالب العمّال ـ التي هي مطالب ماديّة ـ محفوظة في محلها, وعلى الجميع أن يتابعوا هذه المطالب المادية التي هي حق، وعليهم أن يؤمّنوها, لكن هناك مطالب معنوية وهي تتعلق بشأن العامل, الاهتمام بنشاطه وسعيه, من أجل أن يُفهم أن هذا جهادٌ، فهذا أمرٌ مهم. فالعامل خلف الآلة أو حين التصميم والتخطيط، أو في العمل في المزرعة، أو في أي مكانٍ يعمل فيه على الإنتاج ويؤدي إلى الإنتاجية، يجب أن يشعر بأنّه يحقق عملاً كبيراً مهماً قيّماً, هذا ما يريد الإسلام بيانه, وهذا هو اعتقادنا القلبي. ويوجد فارق كبير بين هذه النظرة ونظرة العالم المادي ـ سواء العالم الرأسمالي أو العالم الاشتراكي ـ الذي ينظر إلى العامل كأداة.
العامل في الرأسمالية مجرد أداة إنتاج
فاليوم في العالم الرأسمالي، وبالرغم من تمتّع بعض العاملين من ناحية الامتيازات المادية بوضعٍ جيد ـ فليس هذا الأمر عاماً، وإنما هو لبعضهم ـ لكنه بنظر المدراء وواضعي السياسات في العمل والإنتاج ليس سوى أداة أو آلة, له قيمة ما دام قادراً على إنتاج القيمة المادية والأرباح. ويوجد فارق كبير بين هذه النظرة إلى العامل والنظرة التي تراه مجاهداً في سبيل الله. حيث يتخذ العمل الذي يؤدّيه ما هو أبعد من جميع الأجور المادية، وهو الأجر الإلهي والقيمة والثواب الإلهيين, وما بين هذين الأمرين فاصلٌ عميق, فهذا المطلب لازمٌ، وهو ذاك الاحتياج الحقيقي.
علاقة العامل برب العمل في الإسلام علاقة إنسانية
القضية الأخرى في مجال العمل هي علاقة العامل برب العمل. فكلٌّ من المنهجين اللذين كانا مستعملين في عالمنا اليوم : المنهج الاشتراكي والمنهج الرأسمالي على خطأ. ففي منطق الفكر الاشتراكي يكون العامل ورب العمل ضدين وعدوين متقابلين يتربص كل منهما بالآخر، هذا كان منطقهم، وسبيل الحل الذي قدّموه كان طريقاً ضالاً وباطلاً وخاطئاً: وهو أن تتملّك الدولة جميع مصادر الإنتاج ووسائله، حيث إنّه بعد مرور عدة عقود وصل إلى تلك الفضيحة.وهذه نظرة كانت قائمة على العداء والصراع بين العامل وربّ العمل. النظرية الأخرى هي نظرية المنطق الغربي الذي يكون فيه رب العمل مسلطاً على العامل وبيده زمامه، ويكون العمال وسيلة بيده وتحت إمرته. وهذا أيضاً يُعدّ تحقيراً لشخصية الإنسان، فهو خطأٌ فوق خطأ، وكلاهما على خطأ. أما نظرة الإسلام فليست كذلك. بل هي مبنية على التعاون.
فهذان عنصران بامتزاجهما يتحقق العمل. وخلافاً للنظرة اليسارية والماركسية التي تعتبر كل شيء مبنياً على أساس التضاد ـ والتي بحمد الله قد مُحيت من صفحة الفكر الفلسفي في العالم ـ فإن نظرة الإسلام هي نظرة الالتئام والتعاون. فبدلاً من أن يكون العنصران في حالة من التضاد لإنتاج موجود ثالث، فإنهما يلتئمان لأجل إيجاد هذا الموجود الثالث. هذه هي نظرة الإسلام ونظرة الطبيعة والسنّة الإلهية وقوانين الخلقة. وفي كل قضايا العالم الأمر كذلك، سواء في القضايا الطبيعية أو السياسية أو التاريخية أو الاقتصادية وغيرها. فنظرية الإسلام في مقابل نظرية التضاد الماركسية هي نظرية الالتئام والائتلاف والتعاون والانسجام. وفيما يتعلق بقضية العامل ورب العمل، الأمر كذلك.. إنّهما عنصران يجب أن يمسك كل منهما بيد الآخر حتى يتحقق العمل والإنتاج. فالعامل لا يمكنه أن يقوم بعمله بدون رب العمل، ورب العمل لا يمكنه أن يفعل شيئاً بدون العامل. إنّهما جنباً إلى جنب إذا أقاما علاقة سليمة أخلاقية وإنسانية فإنّ الظروف تصبح مهيّئة لزيادة الإنتاج.. وبالإضافة إلى التقدم المادي يؤدي ذلك إلى بعث المعنويات, هذه هي نظرتنا.
نحن لا نعتبر رب العمل، كما يراه التيار اليساري، ملعوناً ومطروداً ولا كالتيار اليميني سلطاناً ومسيطراً, كلا، فربّ العمل يمكن أن يكون عنصراً شريفاً ـ عندما يتعاون بالحقيقة يكون شريفاً ـ إلى جنبِ عنصرٍ شريفٍ آخر هو العامل، فمعاً ويداً بيد يتحركان بعلاقات إنسانية وإسلامية بيّنة. وهذا ما يشكل أساس العمل. وعلى الجميع أن يتحركوا في هذا الإتجاه. المخططون وواضعو السياسات والسياسيون والذين يشرفون على مرحلة التنفيذ يجب أن يتحركوا بهذا الاتجاه ويعملوا.عندها فإن العامل ورب العمل يجب أن يسعيا بإخلاص كامل للتقدّم بالبلاد من خلال نتاج عملهما.
1- مفاتيح الجنان.2- سورة التوبة، الآية 15.3- نهج البلاغة، الخطبة 103.4- نهج البلاغة، الخطبة 153.5- نهج البلاغة، الخطبة 153.6- سورة النمل، الآية 14.