التفسير العرفاني لما جرى علينا اليوم من أحداث في المنطقة و أزمات و عدم النصر، محمد كوراني
في كتب الصوفية الأساسية والكتب العرفانية مثل كتابات ابن عربي – وخصوصًا في كتبه الكبرى مثل الفتوحات المكية وفصوص الحكم – توجد إشارات واضحة إلى تداول وتجدد تأثيرات أسماء الله في العالم، بل تُعدّ هذه من الركائز المهمة في رؤيته الكونية والتوحيدية.
إنّ أسماء الله الحسنى ليست ثابتة في تأثيرها على الوجود، بل تخضع لما يشبه التداول أو الدورة في الزمان والمكان؛ أي أن كل اسم من أسماء الله يظهر أثره في مرحلة معينة من التاريخ أو في ظرف كوني معين، ثم يخبو تأثيره ليظهر اسم آخر. هذا جزء من مفهومه عن تجلّي الحق في صور متعددة. يقول ابن عربي مثلاً:
“فالرب يتجلّى في كل زمان باسم، فتكون الهيمنة لذلك الاسم” — (الفتوحات المكية، جـ2).
وقال الله تعالى:
﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29].
قد يشير هذا إلى أن فترات الحروب والقهر والغلبة هي فترات غلبة اسم “المنتقم” أو “القهار”، ثم تعقبها فترات تسود فيها الرحمة والسلام والسكينة تحت تأثير اسم “الرحمن” أو “اللطيف”.
يربط ابن عربي بين الإنسان الكامل وظهور الأسماء، فالإنسان الكامل – النبي أو الولي – هو مظهر تام لأحد الأسماء الإلهية أو لمجموعة منها. فكل نبي يمثل اسمًا إلهيًا مهيمنًا في عصره:
نبي الله آدم (ع) يمثل “الجامع”
نبي الله نوح (ع) يمثل “القهار”
نبي الله إبراهيم (ع) يمثل “الودود”
نبي الله محمد (ص) يمثل الاسم الأعظم أو الجامع لكل الأسماء.وهكذا الأمر بالنسبة لأهل البيت (عليهم السلام) فهم امتداد للاسم الأعظم الذي يحمله النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا يشمل أيضًا اختلاف الأزمنة بين حضور الإمام جسديًا أو غيابه في زمن الغيبة.
ابن عربي يلمّح إلى أن تغيّر أحوال العالم – سياسيًا أو طبيعيًا أو إنسانيًا – يعكس تحولات في الأسماء الإلهية السائدة. فإذا ظهرت الفتن مثلًا، فربما كان ذلك من أثر اسم “الفتان”، وإذا انتشر العدل فهو من أثر اسم “العدل”، وهكذا.
كما بيّنا، فإنّ ابن عربي وأمثاله من كبار الصوفية يرون أن التاريخ والوجود محكومان بدورات لتجلّي الأسماء الإلهية، وأن هذه الدورات تؤثر في أحداث العالم، وفي الأمم والحضارات والأنفس. هذه الفكرة تعد جزءًا من البنية التأويلية الكبرى التي تحكم رؤيتهم للتوحيد والتجلي الإلهي المستمر.
من نصوص ابن عربي العرفانية:
تجلي الأسماء الإلهية وتبدلها:
في الفتوحات المكية، الباب 198، يتحدث ابن عربي عن كيفية تجلّي الأسماء الإلهية في العالم:
> “واعلم أن الله لما قال: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ﴾، فجعل الأسماء الحسنى لله كما هي للرحمن… فصور الأسماء الإلهية التي يذكر الحق بها نفسه بكلامه، وجودها من نفس الرحمن، فله الأسماء الحسنى.”
تجلي الأسماء في الإنسان الكامل:
في فصوص الحكم، يتحدث ابن عربي عن الإنسان الكامل باعتباره مرآة لتجلي الأسماء الإلهية:
> “فالإنسان الكامل في أقوال ابن عربي، لا يُصدَق في الحقيقة إلا على أعلى مراتب الإنسان، وهي مرتبة الأنبياء والأولياء… وأكمل هؤلاء على الإطلاق هو النبي محمد ﷺ، الذي يعبّر عنه بالحقيقة المحمدية أو الروح المحمدي، فإنه هو المظهر الكامل للذات الإلهية والأسماء والصفات.”
تجلي الأسماء في كل مخلوق:
في الفتوحات المكية، جـ2، ص 304، يوضح ابن عربي أن لكل مخلوق وجهًا خاصًا يتجلى فيه اسم إلهي معين:
> “اعلم أنه ما من موجود في العالم إلا وله وجه خاص إلى موجده… وأن الله يتجلى لكل موجود من ذلك الوجه الخاص، فيعطيه من العلم به ما لا يعلمه منه إلا ذلك الموجود.”
حول تبدل الأسماء وتأثيرها في أحوال العالم:
في الفتوحات المكية، جـ2، ص 39:
> “فسبب ظهور كل حكم في عينه اسمه الإلهي، وليست أسماؤه سوى نسب ذاتية.”
اسم “الباقي”:
في الفتوحات المكية، جـ4، باب المعرفة بالأسماء الحسنى:
> “فبالباقي بقي، وما بقي غيره إلا بوجه ما هو عليه في حضرته.”
ابن عربي يفرّق بين البقاء المطلق لله و”البقاء المضاف” الذي يظهر في المخلوقات، فهي تفنى من جهة وتبقى من جهة، بحسب ما فيها من تجليات الاسم “الباقي”.
التعبير القرآني “بقية الله” هو تجلٍّ لاسم الله “الباقي” في مخلوقاته وفي الدنيا حتى تزول، وتظهر الآخرة.
وقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة:
﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [هود: 86].
تلقّاه العرفاء – خاصة في المدرسة الشيعية والصوفية – على أنه رمز لوجود إلهي محفوظ في الأرض، وهو في الرؤية العرفانية: الإنسان الكامل الباقي إلى آخر الزمان (غالبًا ما يُفسر على أنه المهدي أو القطب أو الغوث).
الإمام المهدي (عج)، لا يفنى حتى يجدّد الدين ويمزّق الباطل؛ فهو صورة البقاء الإلهي في الأرض:
> “ولا يزال للزمان قطب لا يموت إلا بعد أن يستخلف، فهو باقٍ ببقاء أمر الله فيه.” — (الفتوحات المكية، باب في معرفة القطب)
في المدرسة العرفانية الإمامية، خاصة عند الفيض الكاشاني، والعلامة الطباطبائي، والسيد حيدر الآملي، يُعتبر انتساب مصطلح “بقية الله” إلى الإمام المهدي (عج) أمرًا ثابتًا وواضحًا.
> “بقية الله هو الإنسان الكامل الباقي ببقاء الله، فهو ميزان الحق في الأرض.” — (حيدر الآملي، جامع الأسرار)
حول تلبّس الإنسان بالأسماء الإلهية دون حق:
عند ظهور الكِبر والعُجب والغرور في النفس، يرى العرفاء أن الإنسان يتلبّس بتجليات بعض الأسماء الإلهية ولكن من غير حق، وبطريقة منحرفة ومضلّلة. لأن هذه الأسماء لها مقام ذاتي مطلق، لا يليق بالبشر أن يدّعوه لأنفسهم.
من الأسماء الإلهية التي يُسيء الإنسان استخدامها:
المتكبّر:
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ – [الحشر: 23].
المتكبّر الحقيقي هو الحق، فإذا تخلّق به العبد من غير إذن، وقع في الهلاك لأنه ادّعى ما ليس له.
> “المتكبّر الحقيقي هو الحق، فإذا تخلّق به العبد من غير إذن، وقع في الهلاك، لأنه ادّعى ما ليس له.” — ابن عربي، الفتوحات المكية.
وكذلك اسم “العزيز” أو “القهّار” إذا استُخدما في العلوّ على الخلق. الكِبر قد يظهر أحيانًا من خلال انتساب أمر أو نصر إلى النفس من دون تذكّر المؤثّر الحقيقي في الوجود.
الفرق عند العرفاء بين:
من تجلّى فيه الاسم بإذن الله (كالنبي أو الولي)
ومن تلبّس به كذبًا (كفرعون أو الطغاة أو الناس العاديين الغافلين)
قال أمير المؤمنين (ع):
“العُجب يُفسد العمل، كما تُفسد النار الحطب.”
المهدي (عج) ودوره في التجديد:
ورد في أحاديث المهدي (عج) أنه يُحيي الدين بعد أن يُدرَس أو يُحرّف. من أبرز الروايات:
> “إذا قام قائمنا، دعا الناس إلى الإسلام جديدًا، وهداهم إلى أمر قد دثر، وضلّ عنه الجمهور…” – الكافي، ج8، ص131
قال العلامة الطباطبائي:
> “المهدي هو المظهر الكوني للولاية التامة، وبه يتحقق مصداق: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾…” – تفسير الميزان، ذيل الآية 33 من التوبة
فالمهدي (عج) يُعيد الدين إلى أصله النقي، ويُطهّره من التحزّب والمذاهب والأهواء. لأنه المظهر التام للاسم الأعظم.