البيئة والولاية كأساس لعلم الاجتماع الإسلامي

المقال الأول: البيئة والولاية كأساس لعلم الاجتماع الإسلامي

يُعدّ علم الاجتماع الإسلامي مشروعًا فكريًا وحضاريًا يسعى إلى دراسة الإنسان والمجتمع وفق القيم الإلهية والسنن القرآنية، بعيدًا عن الانحيازات الأيديولوجية والفلسفات المادية التي تقوم عليها كثير من النظريات الغربية. غير أنّ هذا العلم لا يمكن أن ينشأ في فراغ، ولا يكفي فيه مجرد نقد النماذج الغربية أو إدخال مصطلحات دينية بديلة. بل يحتاج إلى بيئة حاضنة، ومناخ ثقافي وفكري، ودولة ونظام ينسجم مع القيم الإسلامية، ليُنتج معرفة أكثر نقاءً وصدقًا، وأقرب إلى الحقيقة الإلهية.

1. أهمية البيئة في نشأة العلوم

التاريخ يشهد أنّ العلوم لا تزدهر إلا حين تتوفر بيئة داعمة. فالإبداع العلمي للحضارة الإسلامية في العصر الذهبي لم يكن ليظهر لولا البيئة التي وفّرتها الدولة العباسية، والتي شجعت العلماء مثل ابن سينا، الخوارزمي، وابن الهيثم. هؤلاء لم يكونوا مجرد أفراد نابغين، بل كانوا نتاجًا لعصرٍ احتضن الفكر ووفّر مؤسسات بحثية (كبيت الحكمة)، وحمى حرية البحث من قيود السياسة الضيقة.

من هذا المنطلق، فإنّ علم الاجتماع الإسلامي يحتاج إلى بيئة مشابهة، ولكنها أكثر ارتباطًا بالقيم الإسلامية الأصيلة، بحيث تكون الدولة والمجتمع متكاملين في دعم المعرفة التي تسعى إلى خدمة الإنسان من منطلق أخلاقي وروحي، بعيدًا عن الطمع والهيمنة التي تطبع العلم المادي الغربي اليوم.

2. دور الولاية في بناء العلم

يرى النص أن تحقيق بيئة مثالية لنشوء العلوم الإنسانية الإسلامية مرتبط بفكرة الولاية. والولاية هنا ليست مجرد مفهوم سياسي، بل هي إطار جامع يربط بين العقيدة (التوحيد والنبوة والإمامة) والقيم العملية (العدالة، الأخلاق، القسط).

فكما أنّ النظام السياسي الإسلامي يهدف إلى إقامة العدل وتطبيق الأحكام الإلهية، فإنّ هذا العدل يُعتبر شرطًا أساسيًا لنمو العلم الصحيح.

العلم الذي يُبنى في بيئة ظالمة، أو تحت هيمنة المصالح المادية، يتأثر بالانحرافات الفكرية والاقتصادية، بينما العلم الذي يُبنى في بيئة قائمة على الولاية يكون أقرب للحقيقة الخالصة.

3. نقد النموذج الغربي

النظريات الغربية في علم الاجتماع غالبًا ما تعكس مصالح القوى المسيطرة في مجتمعاتها، إذ وُظِّفت لخدمة الهيمنة الاستعمارية، وتبرير الصراعات الطبقية أو الثقافية.

أما علم الاجتماع الإسلامي، فهو يسعى لتأسيس معرفة تتجاوز هذه الانحيازات، مستندًا إلى رؤية كونية تعتبر الإنسان خليفة في الأرض، مسؤولًا عن إعمارها بالعدل، لا أداةً للاستغلال.

4. البيئة المثالية: رؤية للمستقبل

البيئة التي يطمح إليها علم الاجتماع الإسلامي ليست بيئة طوباوية (خيالية)، بل واقعية وقابلة للتطبيق. وهي تتحقق حينما تتضافر ثلاثة عناصر أساسية:

الدولة الإسلامية العادلة: التي تنظم شؤون المجتمع وفق الشريعة والقيم.

المؤسسات العلمية والأكاديمية: التي تربط البحث العلمي بالرسالة الإنسانية.

المناخ الروحي والأخلاقي: الذي يُبعد العلم عن النزعات المادية والجشع.

حين تتحقق هذه العناصر، يمكن للعلوم الإنسانية، ومنها علم الاجتماع، أن تنشأ بصورة متكاملة، مثلما نشأت علوم الطب والفلك والرياضيات في الحضارة الإسلامية القديمة.

5. خلاصة

إنّ البيئة هي الأساس الذي يحدد قيمة العلم وقربه من الحقيقة. وهذا ما يجعل الولاية – بمفهومها الإسلامي – إطارًا مرجعيًا أساسيًا، إذ تضمن أن تكون المعرفة متصلة بالقيم الإلهية، لا بالأنانية البشرية أو هيمنة رأس المال.

إنّ بناء علم اجتماع إسلامي حقيقي يتطلب إعادة التفكير في بنية المجتمع والدولة، بحيث تكون حاضنة للعلم الذي يخدم الإنسان والكون، لا العلم الذي يحوّل الإنسان إلى أداة في يد قوى الاستغلال.

روابط إضافية

مقالات إضافية

باطن الارض أفضل من ظاهرها،…

*بَاطِنُ الأَرْضِ أَفْضَلُ مِن ظَاهِرِهَا* محمد كوراني في زمنِ العواصفِ الجيوسياسيةِ العاتيةِ،…

*الملذّات في حياة الإنسان: طريقٌ…

*الملذّات في حياة الإنسان: طريقٌ نحو الكمال لا نحو الغرق* يُخطئ كثيرٌ…

الاثرياء يبنون ملاجئ لهم

المليارديرات حول العالم يبنون ملاجئ تحت الأرض لأنفسهم بشكل جماعي. • زوكربيرغ…

مقالات إضافية

باطن الارض أفضل من ظاهرها،…

*بَاطِنُ الأَرْضِ أَفْضَلُ مِن ظَاهِرِهَا* محمد كوراني في زمنِ العواصفِ الجيوسياسيةِ العاتيةِ،…

*الملذّات في حياة الإنسان: طريقٌ…

*الملذّات في حياة الإنسان: طريقٌ نحو الكمال لا نحو الغرق* يُخطئ كثيرٌ…

الاثرياء يبنون ملاجئ لهم

المليارديرات حول العالم يبنون ملاجئ تحت الأرض لأنفسهم بشكل جماعي. • زوكربيرغ…