من كتاب الحضارة المشرقة المستدامة القادمة، محمد كوراني
الاقتصاد الخفي كائن شرس ينهش ثروات البلاد ويوهم بالتنمية الحضارية، ورد في الصحف العالمية : كانت قد انطلقت حملة تمهيدية قبل أشهر قليلة من حملة مكافحة الفساد في السعودية بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والتي أثارت الجدل والعديد من التكهنات حول آفاقها وحدودها، ولا سيما بعد توقيف عدد من الأمراء والمسؤولين بتهمة الفساد والكسب غير المشروع. لكن تلك الحملة لم يلتفت إليها الإعلام. وقد هدفت إلى مكافحة ما سمي بالاقتصاد الخفي، الأقتصاد الذي قيل إنه يستنزف أكثر من 90 بالمئة من محلات التجزئة في السعودية التي تدار بنظام التستر التجاري. حينها صعد تعبير “الاقتصاد السري” من جديد ليشغل الباحثين من جديد.
ويشمل الاقتصاد السري، أو الخفي أو اقتصاد الظلّ، جميع الأنشطة المولدة للدخل المادي، التي لا تسجل ضمن حسابات الناتج القومي لهذه الدولة أو تلك. إما لتعمد إخفائه تهرّبا من الالتزامات القانونية والمالية المرتبطة بالكشف عن هذه الأنشطة، وإما بسبب أن هذه الأنشطة تعمل أصلا في مجالات وسلع مخالفة للقانون. وتبعا لطبيعته السرية، تطلق على هذا النوع من الاقتصاد أسماء عديدة، تحدد سمته الأساسية وصفاته الأكثر إحاطة أو قربا من طبيعة عمله وآليات نشاطه ووسائله، ويتفرع بعضها لوصف أنواع من النشاطات الخاصة والأكثر خطورة، كاقتصاد الجريمة أو الاقتصاد الأسود.
يغطي هذا النمط من الاقتصاد مساحات واسعة ومتنوعة من النشاطات والخدمات، التي يصعب حصرها وضبط آليات حركتها، ووفقا لهذا فإنّ أنشطة الاقتصاد الخفي، قد تشمل أيضا المداخيل المولدة بطرق شرعية، ولكن لا يعلن عنها للإدارات الضريبية، كما تشمل من جهة ثانية الأنشطة الإجرامية التقليدية مثل الاتجار بالبشر وبالأعضاء والمخدرات والدعارة والأسلحة وتهريب الآثار وغسل الأموال وغيرها الكثير.
وقد ينخرط في الاقتصاد الخفي أفراد وأسر من مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية والعمرية والجنسية، فنجد فيه التاجر ورجل السلطة وضباط الجيش ورجال الأمن ومن عامة الناس، والرجل والمرأة، من الشيوخ والشباب، وهؤلاء غالبا ما يتجمعون على شكل مافيات تخترق الحدود الجغرافية للدول المتجاورة والبعيدة.
التسارع التكنولوجي والانترنت والاستثمار في البيتكوين التي واصلت ارتفاعها متجاوزة الـ 15 ألف دولار عوامل تتسبب في تضخم الاقتصاد الخفي وزيادة عملائه.
الارباح الهائلة الحاصلة من الجريمة المنظمة في القتل والدعارة والمخدرات تفوق ارباح الكثير من الدول و هي لا تدخل في الاعمار والتنمية البشرية والتنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية والتطوير العلم، بل يكون لها دور سلبي في كل ذلك
الهدف من شرح جوانب من الاقتصاد الظل والاقتصاد الأسود والأقتصاد الخفي هو التاكيد على أن لا يمكن بناء حضارة مثالية مع وجود هذا النوع من النشاطات الاقتصادية غير سليمة و مع وجود اقتصاد خفي مناهض للاقتصاد الرسمي الشائع.
نفوذ بلا حدود
تنشأ بفعل هذه التجارة البعيدة عن الرقابة والمعايير أنماط هائلة من السلطة والنفوذ، حتى تكاد تطغى كليا على الاقتصاد الرسمي، كما هي الحال في بلاد مثل العراق وسوريا على سبيل المثال، حيث تشكلت شبكات منظمة، في فترات الاضطرابات الاجتماعية والفوضى والحروب والمجاعات ومختلف الكوارث، وفي ظلّ تعطّل مشاريع التنمية والبطالة والتسيب في القوانين والفساد.
لقد تحوّل الاقتصاد السوري والعراقي والليبي واليمني بمعظمه، في أثناء سنوات الحرب إلى اقتصاد ظلّ، أو قد يطلق عليه في هذه الحالة “اقتصاد حرب” بموجب تعطّل آلة الإنتاج، واضطراب عمليات الاستيراد والتصدير والعقود الرسمية، وهو لا يختلف في عدم قانونيته عن كل الأنواع الأخرى، ولكنه مع ذلك، يتسع ليشمل كل مناطق النزاع. كما أضيفت في حروبنا عمليات تهريب البشر، في اتجاهين مختلفين، وقبض عمولات مقابل ذلك.
يصعب أن نجد شخصا أو أسرة في مختلف دول العالم، لم يتداول أيّ منهما بعض أنواع هذه النشاطات الشائعة البسيطة منها أو المعقدة، بدءا من أعمال منزلية؛ ترميم ودهان أو ورش تصليح أو دروس خاصة في مجالات العلوم والهوايات وغيرها، وصولا إلى البائع المتجول، حيث تتوفر السلعة الأرخص والأسهل في الوصول والأقل من الجهد. رغم أن اقتصاد الظلّ هذا، يختلف في مدى تحديده وتقييده وملاحقته وضبط حركته، بين الدول تبعا للثقافة السائدة وطبيعة الأنظمة. ففي حين تتساهل الدول النامية ولا تلاحق النشاطات والخدمات المنزلية والسلعية البسيطة والشائعة، تقيّدها الدول الأوروبية والمتقدمة بالقوانين وتلاحق المخالفين، كما تلاحق مصلحة الجمارك السلع القادمة من خارج الدولة، دون رخصة استيراد أو شهادة منشأ، بينما تحاول مصلحة الضرائب أن تخضع الجميع إلى حركة الاقتصاد الرسمي والمعلن والمصرح به، ولكنها لم تستطع ولن تستطيع ضبطها كليا.
إغراءات بلا حدود أيضا
باعتبار أنّ هذا الاقتصاد السري خارج النظام الاقتصادي للبلاد، فإنه يخفف على المستهلك قسطا كبيرا من الضرائب والتكاليف، فتغدو سلعته مطلوبة وذات رواج كبير، تجتمع فيها مصلحة البائع والمشتري، ولا سيما الفئات الشعبية الواسعة، ما جعله عبئا كبيرا على الدخل العام وعلى توفير الخدمات والمشاريع الضرورية للمواطنين، وبات يفتك بالكثير من الاقتصاديات بنسب مختلفة، في شتى دول العالم، لتفّلّته بل تمرده على الأنظمة والقوانين الوطنية والدولية المرعية في الكثير من الحالات، وهي التي تعطيه صفات اقتصاد المافيات العابرة للحدود الجغرافية والأنظمة، وباتت الدول تتعاون على ملاحقة نشاطاته ولا سيما الأكثر ضررا اقتصاديا وأكثر خطورة على المجتمع، لذلك بات الأنتربول مكلفا بملاحقة النشاطات المشبوهة بين الدول.
صحيح أنّ الاقتصاد السري، يساعد في تقليل نسبة البطالة، ويؤمن الاكتفاء الذاتي وزيادة دخل الأفراد والأسر، وحماية أصحاب المداخيل الضعيفة من الأفلاس، لكن كل هذه الفوائد المرحلية، لا تتوازى مع المخاطر الكبرى على مستقبل مشاريع التنمية، وبنية الاقتصاد الوطني وأخلاقية التعامل بين المواطن ومؤسساته، وعندها يمكن للدولة الحديثة، أن تحقق كل هذه النتائج.
وتتمثل خطورة اقتصاد الظلّ على الاقتصاد الوطني، بأنه بلغ حسب التقديرات الرسمية 30 بالمئة من الاقتصاد الوطني في معظم دول العالم العربي، وأنه في ظلّ اقتصاد الحرب، بات يتغذى على الاقتصاد الرسمي. وإذا كانت هذه النسبة من حجم النشاط الاقتصادي هي خارج حسابات الدخل القومي، وخارج إطار الخطط الخمسية ومشاريع التنمية، فستفقد الكثير من هذه المشاريع صدقيتها، بل وقدرتها على حلّ المشكلات المترتبة على ذلك. لكنه يزداد في بعض البلدان، فيقدر في سوريا مثلا بـ40 بالمئة من حجم الاقتصاد السوري، وفي الجزائر، اعترفت الحكومة أن 700 من الأسواق غير الرسمية ظهرت خلال فترة التسعينات من القرن الماضي، لبيع كل شيء من قطع غيار السيارات المقلدة إلى الذهب المزورة لتسيطر على 40 بالمئة من اقتصادها.
الدول الأوروبية والغربية تعاني من وجود اقتصاد خفي واسع، فقد تؤدي نظم الضمان الاجتماعي ومدفوعات الرفاهية التي توفرها لمواطنيها إلى دفعهم نحو دخول الاقتصاد السري.
هذه نماذج من نشاطات اقتصادية هي ليست فقط مضرة بالنظام والمجتمع بل هي مناهضة للحضارة المثالية المستقبلية ولا يمكن تاسيس حضارة مثالية مع وجود اقتصاد خفي او اقتصاد ظل معظم نتائجه تكون ضد القيم والاخلاقيات والنظام