الإرتقاء بالتسديد الإلهي في إتباع الأعلمية
أورد العلامة الحسيني الطهراني حول الموضوع “كيفية استكمال واستدراج التسديد الإلهي” في كتابه “معرفة الإمام” المجلد السابع عشر في الصفحة 167 و في الأبواب التالية ” غير المعصوم لا يُسمّى إماماً عند الشيعة” و حول هذا العنوان ” غير المعصوم لا يُسمّى إماماً عند الشيعة ” طالب بعدم تسمية الامام الخميني (قدس سره الشريف) قائد الثورة و ملهم الامة الإسلامية رغم تاييده له بكلمة “الإمام”، : ف( غير المعصوم لا يُسمّى إماماً عند الشيعة) فالعدل هو أعطاء كل ذي قدر قدره.
( … هذا هو معنى الإمام في الاصطلاح الشيعيّ. أي: زعيم العالمين و مقتداهم في الشؤون الظاهريّة و الباطنيّة، و الاجتماعيّة و المعنويّة الروحانيّة، و الملكيّة و الملكوتيّة. و قد وهبه الله الحصانة و العصمة اصطفاءً من لدنه ليكون زعيماً مقدّماً في جميع الامور. و هؤلاء الأئمّة ينحصرون في اثني عشر شخصاً: أوّلهم الإمام عليّ ابن أبي طالب أميرالمؤمنين عليه السلام، و آخرهم الإمام الحجّة بقيّة الله: محمّد بن الحسن العسكريّ عجّل الله تعالى فَرَجَهُ المبارك. و هو حيّ حسب عقيدة الشيعة الراسخة، و بيده ولاية الشؤون المعنويّة و الملكوتيّة في العوالم، بَيدَ أنّه غائب عن الأنظار الآن بسبب غصب الغاصبين للخلافة و الإمامة، و يظلّ غائباً إلى أن يأذن الله تعالى بظهوره فيُقيل المتصدّين للسلطة على الناس باطلًا، و يتولّى حكومة الناس على أساس الطهارة السرّيّة و العصمة الإلهيّة و الولاية الحقّة الحقيقيّة الكبرى. لهذا عدد هؤلاء الأئمّة اثنا عشر كنقباء بني إسرائيل، لا ينقص و لا يزيد. (معرفة الإمام، ج17، ص: 168) …
علماً أنّ لفظ الإمام قد ورد في القرآن الكريم بمعنى الإمام حسب مصطلح الشيعة الإماميّة أيضاً، كقوله تعالى: وَ إذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. [الآية 124، من السورة 2: البقرة]. المراد من لفظ الإمام هنا هو المعنى الأخصّ له. و لهذا لا ينال الظالمون هذا المقام، و إلّا فمن الواضح أنّهم لا يحرزون مقام الإمامة بمعناها المطلق أيضاً. أجل، إن لفظ الإمام و الإماميّة في عرف الشيعة هو خصوص المعنى المعهود و المعروف، لا مطلقه، و إلّا فلا معنى لإطلاق الإماميّة على الشيعة الاثني عشريّة. و كلّ جماعة تتبع مقتداها تُدعى الإماميّة حتماً كالحنابلة، و الحنفيّة، و الوهّابيّين، إذ إن لكلّ فرقة من هؤلاء إماماً. و لمّا كان مقتدوهم أبا حنيفة، أو أحمد بن حنبل، أو محمّد بن عبد الوهّاب، فلا جرم أن يقال لهم: الإماميّة أيضاً، و يكون إطلاق هذا اللفظ عليهم صحيحاً، في حين ليس الأمر كذلك. إن لفظ الإماميّة يطلق على القائلين بولاية الأئمّة المعصومين الاثني عشر و إمارتهم. و يطلقه عليهم المؤرّخون بما فيهم مناوئوهم كأحمد أمين المصريّ، و الشهرستانيّ، و فريد وجدي، و ابن خلدون، و من شابههم. فإنّ هؤلاء يرون أنّ الإماميّة اصطلاح خاصّ لهذه الجماعة خاصّةً. و ذكر كلّ منهم فصلًا في كتابه حول الإماميّة. و عقّبوه بشرح مشبع يتناول مزايا المذهب الشيعيّ الإماميّ الاثني عشريّ، أو الإسماعيليّ و آثارهما و أخبارهما و خصائصهما. و لهذا في ضوء عقيدة الشيعة الاثني عشريّة المؤمنة بحياة الحجّة عليه السلام و إمامته لا يمكن أن نطلق لقب «الإمام» على غيره. (معرفة الإمام، ج17، ص: 169) حتى (معرفة الإمام، ج17، ص: 171)
ز) الاصلاح والتطور في نظرية “الولاية المتدرجة”
نظرية الإصلاح الإجتماعي والتنموي عند العلامة الحسيني الطهراني من خلال استدراج التسديد الإلهي يعطي لنظرية “الولاية المتدرجة” قابلية أكثر لتوسع في العالم ثقافياً رغم العولمة لأن التسلسل بالأعلمية والأفضلية النورانية تسري من أعلى القمة ألي قاعدة الهرم، فالتكامل المستمر الروحي والنفسي والأخلاقي شرط أساسي في طلب الإصلاح والإصلاح وفي نيل اكبر درجات من التسديد والنصرة الإلهي، المقصود هنا حركة الوعي الثقافية الدينية في عصر الغيبة التي يسعى فيها الجميع من أعلى القمة الى قاعدة الهرم الى الكمال والتكامل والتعرف على الأكمل والوصول الى الأكمل وظهور الإمام المهدي المنتظر (عج) بالعلائم الغيبية والمعجزات. وكما قلنا سابقا الهدف أسمى والأساس للعرفاء و الأولياء في المسائل التي تتعلق بالشأن العام هو أن يتحقق الأرضية المناسبة للبشرية للحصول على أعلى الدرجات الكمال المعنوي والأخروي أورد العلامة الحسيني الطهراني حول موضوع أن كمال الولاية وكمال التسديد وكمال النصرة الإلهية منوطة بكمال الناس والزعماء والتكامل فيما بينهم وأن عملية الكمال عملية مستمرة في جميع مباحث السير والسلوك وفي جميع مباحث الولاية : فنحن أمام وظيفتين في هذه الحكومة: إحداهما: أن نسـاند الاعمال الجـيّدة ونظـهر محاسـنها فنقول: ما شاء الله، ما هذه الصلاة المقامة! يا لروعة هذه الخطب! ليس لاحد أن يجد محلاّ واحداً للمشروبات الكحوليّة في جميع أرجاء البلاد، … أمّا وظيفتنا الاُخري فهي: محاولة إصلاح الاعمال السلبيّة، فإذا رأيت جداراً ناقصاً، فلا تقل مادام كذلك فلنكسر طابوقة أُخري، بل خذ الطابوقة الساقطة وضعها في مكانها وابنها بإحكام… فهذا يدل على أن تحقق الولاية هنا ليست الولاية المثالية النهائية كما الولاية التي نشهدها في دولة المعصوم عليه السلام، خاصة دولة المهدي المنتظر في آخر الزمان مع التأكيد علي أن أي تغيير يجب أن يبدا بالإنسان وهذه نكتة مهمة إِنَّ اللَهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي’ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.. فالإصلاح يقتضي حركة تصحيحية وتكاملية مستمرة : العلامة الحسيني الطهراني يؤكد في عدد من مؤلفاته على أن حركة الانسان في سيره وسلوكه تجاه الكمال وتجاه الله حركة مستمرة تصحيحية وتكاملية فكما أن الانسان يجب أن يسعي الى الكمال بشكل مستمر وبشكل دائم و ينتقل من أستاذ فاضل وكامل الى أستاذ أفضل وأكمل، كذلك المجتمع يجب أن يسير في نفس الروحية والذهنية وعلى المجتمع من خلال الوعي والتكامل والعمل بالوظائف الجماعية والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بالاحكام الشرعية أن يرتقي و يسير في مسير تكاملي تصحيحي و أن يبحث عن أفضل قائد ممكن وأعلمهم و أن يبحث عن أفضل شروط ممكنة وأفضل ظروف متاحة، لكي يصحح الخطأ الحاصل: إلَّا لَمْ يَزَلْ أمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالًا حتّى يَرْجِعُوا إلَى مَا تَرَكُوا …
الإصلاح يتحقق بالنظام والتنظيم وتطبيق القانون وبنود البيعة ونص المعاهدات بشكل صارم أورد العلامة الحسيني الطهراني (قد) حول الوفاء بالعقود بأنها تشمل كل العقود ومنها “البيعة”، فهي من هذه العقود مثلا لو بايع الحاكم مع الناس على ان يكون النظام السياسي جمهورياً أو بحسب دستور معين، فيجب مراعات بنود البيعة ومفادها وذالك الدستور و كما نعرف بأن أول خطوة كان يقوم به رسول الله (صل الله عليه وآله) مع الآخرين هو القيام بالمعاهدات، فالمعاهدات والإلتزام المطلق بالمعاهدات كان الأساس في سيرة رسول الله بتعاطيه مع الآخرين و كان ملتزم بما تعهد به حتى ينقضه الآخر كما أن الإصلاح لا يتحقق الا بملاحظة الظروف، صحيح بأنّ الإصلاح لا يتحقق الا بملاحظة الظروف المحيطة والعالم اليوم تسير باتجاه النظام العالمي الواحد والصراع الموجود هو لتحديد من يكون حاكم هذا الكون و من تكون ثقافته واقتصاده و علومه حاكمة على الدنيا، في ظل هذه الظروف يظهر أهمية توجه العلامة الحسيني الطهراني (قد) بالنظام والتنظيم والقانون. من أهم شروط تحقق “دولة الحق” هي “التسليم للحقّ” والحق هو رأى الامام المعصوم أو الحكم الولائى في السلسلة الولائية، حيث يجري الامر الولائي من أعلى السلسلة إلى القاعدة وهذا الجريان يتطلب نظام دقيق ومنسجم ويتطلب تنظيم اجتماعي وسياسي متماسك ومنسجم لتنفيذ الكامل والدقيق للأوامر المقررة من أعلى الهرم إلى قاعدة الهرم وبالتالي من أهم شروط الولي العالم بالفقه في نظرية “دولة الحق”، هو أن يكون الوالي مبسوط اليد وأن يكون نافذ الأمر بحسب الأصول وأن تكون أوامره الولائية مطاعة لفرض النظم والنظام، لأن أي خلل في هذا النظم والنظام يتحمله من يسبب ذلك الخلل والضعف في المجتمع: من أهم الأمور التي تخلّ بولاية الحاكم والوالي هي فقدان سلطته على عماله وعدم التسليم لأوامره وعدم تنفيذ قراراته في السلسلة الطولية والعرضية للموظفين. الحاكم في نظام الولاية هو ليس شخصاً عادياً، حتى يرتكب ذنوب عادية، بل “حسنات الأبرار هنا سيئات المقربين” فالولي العالم بالفقه الذي وصل إلى هذه المرحلة هو مبرئ من جميع هذه الاتهامات التي يسوغونه لتضعيف هذا النظام، لكن محاسبة الوالي والحاكم تتم من خلال مدى انضباط عماله وموظفيه في تنفيذ أحكامه واحكام الإسلام لأن في النهاية وحتى في حكم الله تسجل اعمال الولاة بأسم الوالي، ويحاسب الوالي والحاكم على اساس مردود المجتمع والنظام كله، ولذلك نجد أن المعصوم يصفون تعامل القائد مع العاملين بين يديه في دولة آخر الزمان بأنه “شديدا على عمال” فلذلك يؤكد العلامة الحسيني الطهراني على “النظام والتنظيم” بشكل ملفت للنظر في نظرية دولة الحق وربما يعتبر النظام والتنظيم من أهم ميزات العملية نظرية الدولة الحق بالنسبة لباقي النظريات حول ولاية الفقيه فبحسب نظرية دولة الحق عندما يختل نظام الولاية من خلال توسع دائرة أخطاء العمال والولاة ومن خلال تجاوزاتهم للقانون والشرع، فتصحيح هذا الخلل في الولاية لا يمكن إلا بانقلاب الوالي على ذاته وتصحيح مسار الأمة (كما حصل لنبي الله سليمان بعد المنام) ليكون قائدا مبسوط اليد ونافذ الأمر، شديدا على المسؤولين في الحكومة، رحيما على كافة إطياف الشعب. فهذا الاختلال في التنظيم يخلّ بشروط الولاية وتصحيح الخلل يكون بترميم النظام لكي تسري الأوامر الولائية من الأعلى إلى القاعدة دون خلل وتوقف. فالعدل شرط الله في التمكين في الأرض لأن وَظيفَةُ الوَليّ الفَقيهِ هي إقامَة العَدْلِ وَ الصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ حِفْظ الحُقُوق الخاصَّة لِلمُسْلِمينَ وَ اهْل الذِّمَّة. وظيفة الوليّ العالم بالفقه الجهاد والامر بالمعروف والنهى عن المنكر إنّ الحكومات العادلة التي اقيمت و تُقام بين الامم و الشعوب المختلفة في العالم إنَّما تكون على أساس حفظ سنن تلك الامم و الشعوب، و الحفاظ عليهم طبيعيّاً و مادّيّاً. أي أنَّ أفضل حكومة عندهم تلك التي تضمن الأمن الداخليّ، و تحفظ الحدود من اعتداء الأجانب و الأعداء، و تعمل على إعمار البلاد، و سلامة الشعب، و تحافظ على العادات و التقاليد الخاصّة لتلك الامّة؛ و لا تتخطّى أي من تلك الحكومات هذه الامور الأربعة. و أمّا حكومة الإسلام التي يتولّاها الوليّ العالم بالفقه فهي لا تتولي الامور العمرانيّة و الأمن الداخليّ و حفظ الحدود و العادات و التقاليد الاجتماعيّة فحسب، بل هي مسؤولة عن توجيه الناس إلى الصلاة، أي عن إقامة الصلاة، و إيتاء الزكاة، أي جمع الزكوات و إيصالها إلى مستحقّيها، و عن الأمر بالمعروف، أي عن هداية الناس إلى كلّ ما هو معروفاً عند الله و رسوله على ضوء الآيات القرآنيّة، و إبعاد الناس و منعهم عن كلّ ما هو منكر في القرآن الكريم و سنّة الرسول. فهذ النظرية وحدها تهيئ الناس ليكونوا أهلا لدولة الإمام المعصوم عليه السلام من خلال الارتقاء التسديد الإلهي بالإتباع الأعلمية فأورد العلامة الحسيني الطهراني حول الموضوع “كيفية استكمال واستدراج التسديد الإلهي” : ينبغي للحاكم إصلاح نفسه قبل إصلاح الناس …فاصلاح خلل سلسلة الولاية من الحاكم الواحد حتى القاعده الشعبية . قلنا بأنّ كما أن الإنسان المؤمن يحتاج الى تكامل مستمر من خلال استاد كامل ثم أستاذا أكمل فأكمل ولا يمكنه التوقف عند حد معين والإكتفاء بمقدار معين من التحسن والكمال، كذلك دولة ولاية الفقيه التي هي أفضل ما لدينا و أفضل الموجود لدينا لكنها أيضا بحاجة لتكامل مستمر و لحركة تصحيحية مستمرة و لتجديد متكرر، في العرفان لا يوجود ركود و توقف و بقاء في مكان معين بل هناك حركة جوهرية مستمرة حتى يلتحق الإنسان بالمعصوم وحده. نعم في كل مرحلة التطور والتكامل والتحسن يتغير شكله ولونه، فيكون التكامل المستمر تحت ظله و من ثم حتى لقاء الله فيكون التكامل بالفناء في الله وبالبقاء في الله، فحتي بعد لقاء الله يقول للمؤمن (إقرأ فالرقى) حتى الوصول الى مرحلة الهوهرية. فبحسب العرفان لا يوجد في الكون كمال ثابت.
في نظام الخلق وفي نظام الكون، عندما خلق الله الكون نظر الى أفضل وأشرف الكائنات وهم محمد بن عبد الله صلوات الله عليه و اهل بيته عليهم السلام فأعطى الكون ما يستحق من رحمة ونعيم وأفاض على الكون بسبب هؤلاء من عنده ومن منّه ما أفاض من رحمة إلهية فخلق بها السماوات السبع والأرضين السبع و ما سخّر فيهم للإنسان والبشرية والكائنات ليعبدوا الله وينالوا ما ينالوا من رحمته الخاصة والعامة في الآخرة و في الدنيا من نعيم و رخاء، لكن ظهور هذه الرحمة والنعيم والرخاء في الكائنات يحتاج الى الظروف المناسبة والبيئة الجيدة لتلقي هذا الفيض الإلهي.
فقلنا سابقا بحسب الثقافة العرفانية والصوفية نعرف مثلا أن هناك سلسلة وهرمية و تراتبية في مراتب العرفان والتصوف فهناك قطب واحد و أربعة عمداء و سبعة أمناء و أربعون من الابدال و ثلاثمائة من النقباء، فكلما كان الناس بحسب وعيهم الديني والتزامهم الشرعي أدرك لهؤلاء ولمقامهم و لمكانتهم عند الله (فيؤمنون بهم و بمكانتهم عند الله و يحترمونهم ويلتزمون بارشاداتهم) تكون تسلسل الولاية فيهم أظهر و أبين وتكون التسديد الإلهي ونصرة الله لهم أكبر وأكثر و إنسيابية خطط الله و مشيئته بينهم تكون أسهل وأوضح. والوفاق بين اركان هذا النظام السياسي من أعلى الهرم الى ادنى القاعدة الشعبية تكون أكبر وأفضل. فالنظرية دولة الحق أي نظرية العلامة الحسيني الطهراني (قد) في العمل السياسي هي حركة جوهرية اصلاحية متواصلة، تعتمد دائما على إصلاح النفوس لأن نفس الإنسان قابلة للتغيّر ما لم ترسخ فيها العلوم الباطنيّة، أنَّ كثيراً من الأشخاص، و قبل وصولهم إلى المرجعيّة، كانوا من الطاهرين الأفاضل و العدول و المتّقين و المقدّسين، حتّى شوهد من بعضهم أنّهم كانوا يسيرون برفق أثناء صعودهم و نزولهم عبر سلالم المدرسة لكي لا تستهلك تلك السلالم و الأحجار بسبب كثرة السير عليها، فكانت دقّة تصرّفهم في أموال الأوقاف إلى هذا الحدّ. و لكنّهم بعد وصولهم إلى المرجعيّة ارتكبوا إلى ما شاء الله من الألاعيب المثيرة للقلق الشديد، التي تجعل الإنسان يشكّ في أنَّ هذا الشخص، هل هو نفس ذلك الشخص المحتاط أم أنّه شخص آخر؟! غير أن (من يتولى الشأن العام) يجب ان يكونوا ممتلكين لدرجة عالية من التقوى، فالذين يمارسون الأعمال العامّة و يحملون عنوان ولاية عامّة، مسئوليّتهم صعبة و معقّدة جدّاً، و يجب أن يكونوا ممتلكين لدرجة عالية من التقوي الإلهيّة، و أن يكونوا مرتبطين بالله باستمرار، فعليهم في الوقت الذي يوجّهون الأوامر إلى الناس أن يكونوا أنفسهم مؤتمرين بأوامر الله باستمرار، و في حالة تضرّع و مناجاة وخضوع دائم بين يدي الله، وأن يكونوا في حالة تواضع مستمرّة تجاه الناس، و حتّى تجاه خدمهم، فيذهبون إلى مجالس الفقراء، و يجلسون على الحصير، و لكي يستأصلوا ذلك الغرور والتكبّر- الذي هو لازم الولاية- من وجودهم بواسطة عمليّة إذلال هذه النفس، و ألَّا يسمحوا لنطفة الغرور النامية في رحم وجودهم و اعتبارهم أن تكبر، لأنَّ الامور النفسانيّة لها منشأ في وجود الإنسان، و تلك الولاية وذلك الاعتبار أيضاً بمنزلة الأرضيّة المهيّئة لتنمية و توسعة الاستكبار بالنسبة إليه. هذا من جهة.
و من جهة اخرى، فالإنسان لا يصغي لكلام أحد و لا تأتيه مؤاخذة أو توجيه أو أمر من أحد، فالظروف و الملابسات و الجوّ و سائر اللوازم و الخواطر تقتضي ارتفاع الآمريّة المتنامية في الإنسان بشكل متصاعد و مضاعف. لكنَّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن كذلك، قد كان يأمر الآخرين باستمرار، كما أنَّ طاعته لأمر الله كانت مستمرّة أيضاً، و بذات الوقت كان كثير البكاء و السجود؛ و يلبس الثياب البالية دون أن يتخطّى عن زيِّه ذلك، و إذا أقسم فقسمه حقيقيٌّ. و لذلك قال أبو رافع: إنَّه شعر بالخوف من كلام الإمام عليه السلام، لأنَّ أمير المؤمنين عليه السلام جادٌّ فيما يقول و فعّال لما ذلك. رفض حكومة أميرالمؤمنين القيام على أساس المصالح السياسيّة …
كما أن العلامة الحسيني الطهراني يؤكد علي “أعلمية القائد” الذي يكون ضمن سلسلة الولاية. والأعلمية هنا بمعناها الإلهي والرباني والنوراني. فالأعلمية في الحكم والقيادة، في المجتمع يشترط في العالم بالفقه “الأعلمية الباطنية والعلمية” والمعرفة العرفانية وصفاء السريرة ليكون في تواصل مع أمامه بشأن الأمور المعقدة في إدارة الحكم مستنداً إلى عدة أحاديث وروايات؛ وهذا الموضوع يفتح الطريق واسعاً أمام الإنسان، ويبصّره بأنّ الحكومة ليست أُلعوبة بيد الناس يلعبون بها علي هواهم، بل هي أمر إلهيّ يتعلّق بها حياة الناس ومماتهم ودنياهم وآخرتهم بمقدار ظريف ودقيق وخطير، يمكن أن يقال عنه إنّه أحَدُّ من السيف وأرفع من الشعرة. لكن في الواقع أين الرقابة الحقيقية من النخب المعنوية على القيادة؟ “الولاية المتدرجة” أي دولة الولاية تعتمد على نظام عمودى للولاية فمن أعطاه الله الولاية يحق له ممارسة هذه الولاية بحسب درجته في الولاية و من لم يحظى به لا يحق له الولاية ولا أي درجة منها، فهو يكون أهلا لهذه الولاية ويمارس بحسب أهليته و في هذا الإطار لا يحق لمن لديه الولاية أن يتساهل في الولاية المعطاة له و يدخل فيها ما ليس له حق فيها، ولا يحق له أن يفوض من ولايته لمن ليس اهل بذلك، فيتلقي الولاية من الله و يمارس ولايته بحسب مشيئة الله و يفوض من ولايته بما أمره الله و لمن يجده الله اهلا لها، فيسدده الله في التطبيق و ينصره في النتائج ويدعمه في تفويضها، فإنها نظام حكم صارم ليس فيه توزيع للقوى إلا بمقدار الورع والتقوى و الأهلية والوقوع في سلسلة الولاية، بعكس النظام الغربى الذي فيه توزيع للقوة لكي لا ينجر الشخص إلى استبداد لكن المستبد سوف يقتنص الفرصة المناسبة ليفرض على الآخرين سلسلة قواعد تضمن بقاءه على الحكم وتضمن مصالحه الى الأبد رغم عدم استحقاقه فيما بعد، كما يحصل في الربا والاقتصاد الربوي. فيما يعرف باسم “التهدور الديموقراطي”، لكن بحسب الولاية هناك أدوات أخرى هي وحدها كفيلة بأن تضمن بقاء العدالة لأطول فترة ممكنة بدلا من ادوات السياسية العقيمة الموجودة في الإنظمة الديموقراطية الظاهرية في الغرب وهذا ما يمنع عقدة التدهورالديموقراطية في السلسلة الحاكمة بحسب مقدار الولاية المتاحة حتى يستلم المعصوم عليه السلام الحكم والحكومة ويظهر وعود الله الحتمية، لأن حركة التصحيح والتكامل دائما موجودة من أعلى قمة الهرم الى أدنى قاعدتها الشعبية فلا يمكن حينها أن يقوم الزعيم المستبد بفرض سلسلة معتقدات وثقافات زائفة تضمن له البقاء والقيادة كما يحصل في الربا والاقتصاد الربوي. فلا تزول سلسلة الولاية في الأرض رغم كل الظروف لان الله ناصرها فهي باقية وصامدة ولو تحت الرماد.
يَكُونُ تَعيين الوليّ الفقيهِ بِنَظَرِ أهْلِ الحَلِّ وَ العَقْدِ لا بِرأي أكْثَريَّة عَامَّة الشَّعْب ” فلِلرَّعِيَّةِ عَلي الوَالي حَقُّ الحُرِّيَّةِ وَ المُرَاقَبَةِ وَ الاهْتِمامِ بِصَحَّةِ أبْدَانِهِمْ وَ أنْفُسِهِمْ :هذه هي الحقوق الثلاثة التي للوالى على الرعيّة، و ثمّة ثلاثة حقوق اخرى للرعيّة على الوالى، يأتى التعرّض لها إن شاء الله.
للرعيّة على الوالى ثلاثة حقوق: لأوّل: حفظ أرواحهم و أموالهم و أعراضهم. الثاني: حقّ الحرّيّة في الوسيلة و الهدف للمسلمين، و كذا الحال بالنسبة لليهود و النصأرى الذين هم في ذمّة الحاكم الإسلاميّ ما لم يتآمروا على الحكومة.الثالث: حقّ الرعاية و الحماية لأجسامهم و أرواحهم.
أمّا الحقّ الأوّل، الذي هو حفظ أرواحهم و أموالهم و أعراضهم فيدلّ عليه الخطب الواردة عن رسول الله صلى الله عليه و آله في عرفات و مِني.
الخطة التثقيفية والتنموية للمجتمع الإسلامي بعد الثورة الإسلامية وبعد قيام حكومة الإسلام، من أكثر المسائل الفقيهة والشرعية صعوبةً و تعقيدا، اختلف المراجع والفقهاء في الأحكام الفردية فيما بينهم ولم يقع السماء على الأرض بحسب الظاهر إذا أخطاءوا أو اصابوا، المهم هو المحاولة لفهم ما إرتضاه الله من دينه وما أمره نبي الله ورسوله محمد وأهل بيته، لكن في الأحكام العامة أي خطأ قد يؤدي الى تخلف المجتمع لسنوات و لقرون، بل يؤدي الى ابتعادهم عن جادة الصواب، فبحسب الظاهر حكم اجتماعي مثل “التقية” يؤخر ظهور الدين الحقيقي الى أكثر من ألف عام، لكن مصلحة الله وحكمه أبعد من تقييماتنا و تحليلاتنا الآنية والموقتة في مسئلة التقية خاصة اليوم في ظل تكنولوجيا التواصل الجتماعي. بحسب الظاهر التطور العلمي والاجتماعي الحاصل في الغرب وفي اليابان وفي إمارة الدبي وسابقا في تركيا هي القمة التي يجب على أي دولة حديثة أن تسعى إليه رغم وجود نماذج أخرى من التطور مثل التطور الماليزي والأندونيزي والهندي والباكستاني أو دول شرق أوروبا، او نموذج الدبي او التركي او نيوم 2030… أو من الممكن إتباع نموذج خاص للتطور والتنمية يختص ببلدنا ويتناسب معاها، يختلف عن ثقافة الغرب المقسم الى النموذج الأميركي والاوروبي والروسي أو أي خطة تطور أخرى تكون بحسب حالات الصراع بيننا و بين الأعداء وبحسب حالات الإقبال لدى الناس و رضاهم.
قلنا بأن النجاح والتسديد في جميع الخطوات السياسية والمشاريع السياسية مرهونة بوعي الناس والتزامهم الديني (العقائدي والعملي) و بوعي الحاكم والطبقة الحاكمة (سلسلة الولاية من القمة الى القاعدة) والتزامهم الديني والعقائدي والعملي، كما قلنا بأن الله قد يفيض الى البشرية رحمة من عنده فضلا منه ومنّة منه وقمة هذ الفيض الإلهي تتحقق في “الوعد اللالهي باستخلاف الأرض والوراثة”. هذا النجاح والتسديد حصرية وكاملة بحسب الظروف ولتحسين الوضع لا يمكن اعتماد السياسات البراغماتية والماكياولية .
شريعة الإسلام بذاتها لها قابلية انعطاف وتجاوب مع المتطلبات والحوادث بشكل كاف، وعندما لا يمكن تأسيس حكومة اسلامية حسب الظروف المثالية الواردة في النظرية المثالية، فهناك تدابير شرعية لهذه الظروف الاستثنائية، ومن هذا الباب قد يعتبر الكثير أن البراكماتية والعقل العملاني، وتجاوز الشكليات الدينية والشرعية هي من اسباب الانتصارات والانجازات في الثورة وفي حكومة الإسلام، لكن هذا الأمر متفق عليه عند جميع علماء الإسلام والمجتهدين بأن “حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة”، لا شك أن ظروف الزمان والمكان قد تجعل هناك مسائل جديدة تختلف عن ظاهرها المرتبطة بالمسائل المشابهة، فإذا كان هناك مشكلة في التطبيق فهذه المشكلة بالمجتمع وهذا المجتمع ليس مؤهلا لهذه الدرجة من الاحكام الولائية، فيجب تثقيفه وتأهيله قبل تحميله بالمسؤوليات التي هو ليس قادراً على تحملها. فهذه البراكماتية والكياسة والخدع السياسية في حكومة الإسلام لا تؤدي إلا إلى الفوضى والحيرة عند ضعفاء المؤمنين والخلافات السياسية الداخلية في المجتمع الإسلامي. فقد نجد في هذا الإطار “ضرورة اصل حفظ النظام ” أصبحت مبدأ تشريعياً وليس مبداَ عملياَ، لتبرير الكثير من هذه التجاوزات الشرعية، في الأنظمة الإدارية والسياسية والأقتصادية في حكومة الإسلام.
في مجتمعنا اللبناني، نجد بأن الكثير من الخطوات التي كنا نقوم بها على اسس “الشطارة” و”الحنكة السياسية” بعد عقدين من الزمن تبينت بأنها إما فاشلة وإما مدسوسة و إما عقيمة … وفي المقابل بقاء واستمرارية النهج الروحي هو الذي يؤدي الى نتائج حقيقية، مما يثبت بأن قيمة الحركة والحالة الإسلامية يكمن في أماكن أخرى، بقيت مستمرة رغم تقلب الامور والأحوال والنفوس …
يؤكد العلامة الحسيني الطهراني بأنّ “الوصول إلى الحقّ يجب أن يكون من طريق مشروع” و “مخالفة الطريق المجعول شرعاً مخالفة للّه” وبذلك يؤكد على رفض الماكيافيلية والتأكيد على أن في تطبيق حاكمية الإسلام على الناس الغاية المقدسة، لا تبرر الوسيلة.
القاعدة الإساس: “ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” : أورد العلامة الحسيني الطهراني :”الإشْكَال التَّاسِعْ: الفطرة طريق الكمال التكوينيّ والأحكام الفطريّة تُوصِل للكمال” سلسة مباحث تؤكد على كيفية التعامل مع الناس في الرد على بعض الشبهات التي تحاول أن تقدم حلول بديلة غير إسلامية للمشاكل والأزمات الموجودة في حين أن الحل يكون في الإسلام وعن طريق التقيد بتعالميه بشكل دقيق فهو الطريق الذي يؤدي في النهاية الى الخلاص والنجاة .كل هذه المفاهيم مقدمة لنعرف ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم و لذلك أي خطوة في مجال اصلاح المجتمع يبدا بإصلاح القيادة نفسها كما يصرّ العلامة الحسيني الطهراني علي ذلك و أيضا من خلال اصلاح الناس انفسهم ليكونوا اهلا لتلقي هذه الإصلاحات في مجتمعهم ففي الحقيقة ما يتميز في نظريات السياسية للعلامة الحسيني الطهراني هو التأكيد على هذا الجانب. العلامة الطهراني لديه ملاحظات كثيرة في كيفية إدارة الحكومة الإسلامية لتكون حقاً حكم إسلامي، فتظهر الخيرات والإمدادات الالهية وتشملها التسديد والعناية الإلهية رغم انه يعترف به حساسية الظروف و (العولمة وعالمية الصراع بين الخير والشر) الذي هو عنوان عام لكثير من التجاوزات ولكثير من اللامبالاة الشرعية والدينية والمبدائية، لكن هناك بعض الاقتراحات لكانت تساعد دولة ولاية العالم بالفقه كثيرا علي تجاوز الحدود المزيفة القومية والاتينية والمذهبية :
لا شك ان لا يمكن تصور “حكومة اسلامية مثالية مستقرة” في بيئة غير اسلامية، فالحكومة الإسلامية سوف يكون لديها قدرة من الاستيعاب بحيث تجذب الآخرين إليها بالحكمة والموعظة الحسنة للوصول إلى حالة توازن واستقرار نهائي. في هذا الإطار نجد في نظرية “الدولة الحق” أكبر درجة من رفض الأفكار القومية والقطرية الضيقة فارسية كانت أو عربية، مع اتساع رقعة الأحزاب السياسية والفكرية والدينية المتنوعة، بحيث يثبت أن هذه النظرية لديها قابلية للتوافق مع عولمة أكثر من أيّ نظرية الأخرى التي أثبتت جدارتها بالنسبة للنظريات غير الإسلامية. ونظرية “حكومة الحق” لها قابلية أكثر في تجاوز العقبات التي تتعرض اليوم للحكومة الإسلامية. ولأنها لا تعرض الأنظمة الإسلامية الحالية الموجودة على أساس أنها الحالة النموذجية والمثالية . بل يقدم طرح لمساعدتها وانقاذها، ويسعى حينها للتقدم وللمضي قدما ، وصولا إلى الحالة الأكثر إسلامية في الدولة الإسلامية.
القاعدة الأساسية في هذا الموضوع هو ان إذا كان النصر والتسديد من الله، فلا يجوز تجاوز احكام الله بحجة الظروف الجديدة والشروط الحاكمة.
العلامة الحسيني الطهراني يرفض منطق القوة وفلسفة الغلبة في العالم ويؤكد بأن منطقنا وفلسفة قائم على الإنسانية والعقل وحب الأخرين، فالإصلاح بين ما أمره الله وما تحمله الناس وما تفضل به الله بمنّه يتم توضيحها في نظرية دولة الحق. مما يدل على أن عملية الإصلاح عمليّة متكاملة تشمل اصلاح القائد لمكانه ولبديله ولنفسه ولاسلوب حكمه واصلاح الناس والشعوب لأنفسهم ولاختياراتهم حتى يظهر السلسلة الولائية من أعلى قمة هرم الولاية الى أدنى قاعدة الهرم بحقيقتها الكاملة ويجب على الإنسان أن يعرف من هو أفضل وأعلم منه و فكلما كان الناس بحسب وعيهم الديني والتزامهم الشرعي أدرك لهؤلاء ولمقامهم و لمكانتهم (فيعرفونهم بمكانتهم عند الله و يحترمونهم ويلتزمون بارشاداتهم) فتكون تسلسل الولاية فيهم أظهر و أبين وتكون التسديد الإلهي ونصرة الله لهم أكبر وأكثر و إنسيابية خطط الله و مشيئته بينهم تكون أسهل وأوضح. والوفاق بين اركان هذا النظام السياسي من أعلى الهرم الى ادنى القاعدة الشعبية تكون أكبر وأفضل. وبذلك الله يعطي النصر الإلهي والتسديد المستحق اليهم … ولكن حكمة الله قد تقتضي أن يعطي الله ما لا يستحقه هؤلاء وذلك لحكمة ما ولمصلحة أو لخطر داهم وتهديد نازل ما بفضله ومنه، حينها لا يمكن أن ننسب هذه الانتصارات الى أنفهسم بل ذلك كله يتحقق بمشيئة الله وبمنّه.
قدرة التغيير والإصلاح الدائم في نظرية دولة الحق
قدرة التغيير والإصلاح من أعمق مكان في نفوس الناس
قدرة الثورة والتغيير على أسس ثابتة في الفطرة الإنسانية السليمة
قدرة الثورة والتغيير بشكل منسجم و موحد
الرابح في معركة عض الأصابع بين الحضارات في العالم هو من يصمد أكثر