كيف عوّض الغرب حرمانه من الروحانية وسقوطه في الماديّة القاتلة – د. محمد كوراني
المشكلة في الغرب وحضارته عندما يفشل في تحقيق أهم تحدي حضاري له بأنّه يتحجج بالنسبية والتكاملية ويتهرب من الاعتراف بفشله من خلال ايجاد حلول أخرى و من ثم حلول بديلة للمشكلة فيخرج من حفرة ليقع في أخرى ويستمر في التقلب بين النظريات دون حسيب و رقيب. لا شك ان المجتمع الغربي وباعتراف علماءه وباعتراف الكثيرين من اتباعه يعاني من خواء وحرمان من الروحانية رغم انّ العلم نفسه يعترف بالروح والروحانية وتاثيرها الايجابي والضروري على المجتمع البشري المتوازن والمستدام.
لكن كم هائل من المال الفاسد والسياسي في الجامعات الغربية، كفيلة بالتغطية على فشل الغرب في كل مرة. فيصبح ما يروّج له الاعلام الغربي هو العلم، ويصبح العلم المقدس هو ما يروج له الغرب وتاكدوا عندما تصبح حجة العلم غيردامغة في العقل الجماعي لديهم، يلتجئون في هذا الغرب المتحضر الى اخبار الكائنات الفضائية والرماديين والسحر والشعوذة.
نعم، دائما ينكرون الحقائق كما نكروا انهيار بورصة العقارات والحُباب القاتل للتضخم. نعم دائما لديهم مبررات سخيفة لاتنطلي الا على البسطاء والمنبهرين بالغرب.
يجب أن لاننكر فضل الغرب علينا وفضله على البشرية بعدل وانصاف، فالغرب هروبا من التعصب الديني والاقتتال والحروب الطائفية إلتجأ الى العلم والعلمانية والليبرالية والراسمالية، لكن هل مشكلة الحروب هي من الدين ومن الله،أو من النفوس المريضة بين البشرية. و أيضا كيف يبررون الحروب بين الغرب المتحضر اليوم نفسه، أليس مازلنا معرضون لحروب عالمية كالاولى والثانية وإبادات جماعية كما حدثت في الغرب وبينهم وفي افريقيا بسببهم و في غزة بسلاحهم.
لا شك أنّ الغرب فشل في الوصول الى شعاراته البراقة من السلام والحرية والعدالة والديموقراطية والتطور وسد حاجات المجتمع البشري خاصة العدالة والروحانية والسلام. هناك نظرية تقابل النظرية الغربية تتجلى في ان الحضارة المستدامة لايمكن صنعها من دون مساعدة الهية و من دون الوحي كما تعتقد بها الديانات السماوية غير المنخرطة في استعمار البشر.
نناقش في البداية الحلول البديلة للغرب للتعويض عن هذا الفشل. وكلها حلول قائمة على أن البشر لوحده و بنفسه قادر على تقديم الحلول الحضارية من تحليله و تجاربه ومن صنع فكره وخياله وتوهماته تحت اطار العلم والتطور والتكنولوجيا.
الحركة الهيبية في السبعينات والثمانينات بين الشباب الامريكيين، كانت جرس إنذار للغرب، لولا هذه الثورة الفوضوية السلبية لما كان الغرب اعترف بخواء حضارته وبضرورة وجود الروحانية في المجتمع الغربي خاصة أمريكا.
لذلك عندما التجأ الغرب الى نظرية “روحانية من دون تدين” انتقده الكثيرون منهم القس “ليليان دانيال” و”جيمس مارتن” و “روبرت ويثناو” و “وونغ وفينسكي” وإعتبروه نتاج ثقافة المستهلك و معارضة للدين المنظم والمؤسساتي السماوي.
كذالك بالنسبة لنظرية العصرالجديد “(New Age Movement)” التي اعتمدت الباطنية مستمدة من ديانات منتهية الصلاحية أو ميتة سريريا أو بعيدة جغرافيائياً مثل الهندوسية والبوذية او الطاوية اوالافلاطونية الجديدة او انتقاء بشري لبعض المقتطفات من الديانات السماوية خاصة كابالا اليهودية والغنوصية المسيحية والتصوف النظري الاسلامي غير العملي ونظرية الحركة الفلسفية المتعالية “(Transcendentalism)” المبنية على افكار مختارة من الديانات الاخرى مثل وحدة الوجود والمعرفة بالحدس والالهام والعرفان الكوني وحركة الفكر الجديد “(New Thought)” المبنية على فكرة الطاقة والطاقة السلبية والايجابية والاحساس بالشفاء وبالسعادة و استحضار الارواح والخروج من الجسد المادي من خلال التأمل و حركة الارواحية “(Spiritualism)”، و حركة الثيوصوفيا “(Theosophy)” المبنية على قدسية الشيطان لوسيفر.
ايضا إلتجأ الى ظاهرة الهيببيز و خروج الاف الشباب الى الارياف و تجربة الحياة البدائية من خلال الموسيقى والمخدرات و تعاطي عقاقير الهلوسة هي ظاهرة كانت للتخلص من المادية القاتلة والفارغة.
و الى استخراج نظريات باطنية من نظريات علمية مثل نظريات الفيزياء الكوني مثل بعض نظريات تسلا و اسرارالكون أو الايمان بالعلوم الغريبة الموجودة في الاهرامات المصرية وعند فراعين المصر.
او الى تبديل بعض الرياضات الروحية إلى معتقد باطني وتبديل بعض الطقوس الرياضية الى روحانية مثل ممارسة طقوس اليوغا والتأمل و تقنية العلاج بالطاقة والسلام الداخلي بالتأمل.
اليوم معظم ممن يعرفون انفسهم على اساس أنهم أتباع ديانة سماوية يؤمنون بواحدة من المعتقدات الاساسية من نظريات العصر الحداثة مثل تناسخ الارواح أوالتنجيم أو فكرة الوسطاء الروحانيون ونظرية الطاقة الحيوية في الطبيعة و رغم ذلك يظنون إنهم يؤمنون بالله. في حين أن الله عندهم ليس لديه اي إنجاز وقدرة وهوية ودور!!!
هذه أكبر مشكلة في الغرب، إنها أفقدت حقيقة المفاهيم وهوية الأشياء، فاليوم من يظن نفسه يعبد الله، لايتفاعل مع أي عقيدة ترجع الى الله، الا اسمه الفارغ من السلطة والقدرة والهيمنة والربوبية والعظمة. وفي المقابل يعطون كل الدور وكل الايمان وكل الثقة وكل اليقين والعظمة والتقديس الى كائنات أخرى او مفاهيم اخرى تتعارض مع الايمان بالله.
هناك رواج كبير للسحر والشعوذة وعبادة الشيطان في الاوساط العلمانية في الغرب، كحل للهروب من الخواء الروحي و الفراغ الروحاني في الحضارة الغربية. اذا كان تقديس الإله بالاهتمام به وباستذكاره بمختلف الاوقات فعبادة المال اليوم تشكل الديانة الحقيقية في الكرة الارضية ومن حيث العدد تتجاوز 90% من البشر الى جانب عبادة القدرة والقوة السياسية وتقديسهما. و من هذا المنطلق كتب “ماكس فيبر” كتابه “الاخلاق البروتستانتية و روح الرأسمالية”.
الفكر الاستهلاكي والتبعية للسوق الراسمالي اليوم يشكل المحور الأساسي في كل النظريات العلميّة خاصة في ما يتعلق بالروحانية البديلة عن الدين والإله. انظرواالى دور الماسونية في كل هذه الاتجاهات. الماسونية لاتخاف من بث أي نظرية لأنها تعتبر أي نظرية جديدة مهما كانت سوف تنتج الشك والترديد والتذبذب في نفوس البشر. لذلك الغرب اليوم يرعى و يدعم نظريات دينية متطرفة متنوعة باسم الديموقراطية والحرية وحرية البيان بل يرعى مجموعات تكفيرية مسلحة لأنها ضمن الاطار العام هذه النظريات والمجموعات لا تتجاوز الحدود المقررة، فعندما يجتمع عدد من الطلاب الجامعيين وينتقدون الصهيونية العالمية او اتفاقيات الجامعات مع الكيان العدو ينتفض الغرب برمته ليقمع هؤلاء الشباب و هؤلاء الطلاب. كما حصل في الحركة الهيبية عندما بدأت تضرّ بالسوق الرأسمالي فانتفضت الدولة العميقة و بدأت تتهمهم بالشيوعية، أخطر اتهام امني حينها في أمريكا.
الغرب لايخشى تنوع النظريات، لأنه لا يبحث عن الحقيقة بل يبحث عن التلاعب بالعقول البشرية، لذلك البعض بدأ يكتشف عناصر مدمرة للذات في الحضارة الغربية لأنها من صنع بشر و من صنع بشر يعانون من نفس الامراض النفسية التي يعاني منها الكثير من البشر. و انظروا الى كتابات “خوسية كازانوفا” عالم الاجتماع و “رودني ستارك” عالم الاجتماع الديني و “اريك فروم” الناقد الاجتماعي والمحلل النفسي الالماني و “اريك جوفروا” المفكر الفرنسي أو “ريتشارد ولف” الكاتب الامريكي و انظروا الى الافلام والادب والروايات الغربية خاصة رواية الخيميائي لباولو كويلهو و كتاب طعام، صلاة، حب لاليزابت و كتاب قواعد العشق الاربعون لاليف شفق. انظروا الى توجهات الافلام مثل “Solaris“و “Contact 1997 ” و “Interstellar” حيث كل فيلم يقدم حلا مختلفا للفراغ الروحي في الغرب لعله يستقطب عدد من البشر ويزيل الحاجة موقتا للايمان بالله والوحي والغيب والروح.
بعيدا عن التخبط في الغرب والحضارة الغربية في موضوع الفراغ الروحي والوقوع والسقوط في المادية القاتلة، أنظروا الى كتابات “رينية غينون” المفكر الفرنسي و”اوسفلد شبينغلر” و”جان كلود غيبو” و”باتريك جية بوكانن و كتابه موت الغرب” و “ميشال اونفري” و “ايمانوئل تود و “بول كينيدي وكتابه “نشوء وسقوط القوى العظمى: التغير الاقتصادي والنزاع العسكري” و شينكر و “ارنولد توينبي”و زبيجنيو بريجنسكي و كتابه “أمريكا بين عصرين” ودانيال بل وكتابه “التناقضات الثقافية للرأسمالية” وباتريك آرتو، وماري بول فيرار و “كتابهما “الرأسمالية في طريقها لتدمير نفسها” وجوزيف ناي و كتابه “هل انتهى القرن الأمريكي؟” ،” ايمانويل تود وكتابه “ما بعد الإمبراطورية.. دراسة في تفكك النظام الأمريكي” و “يوهان جالتونج” وكتابه “سقوط الإمبراطورية الأمريكية: ماذا بعد؟” و “و فريد زكريا و كتابه “عالم ما بعد آمريكا” حول انهيار الغرب وتأكدروا أن الحل ليس بحلول من صنع البشر و من ذهن البشر و من تخطيط البشر بل الحل هو في الرجوع الى حقيقة الاديان السماوية غيرالمنخرطة بالاستعمار المتمثلة في العلاقة الفردية مع الخالق والعلاقة الفردية مع المرسلين والانبياء وطلب الانقاذ والمخلص من الله و رسله والايمان والثقة بالخطة الالهية لخلاص البشرية امام خطط الشيطان والمسيح الدجال.