*التوازن النووي والأحكام الشرعية* محمد كوراني
*كلنا نعرف أنَّ الأحكام الشرعية وُضِعَت على أساس الفطرة الإنسانية وما يقتضيه الرحمة الإلهية للسعادة في الدارين، لكن ما لا ننتبه إليه هو الحكمة الإلهية فيما يقتضيه مصير البشرية، كل البشرية.*
الرحمة الإلهية ليست محصورة بعددٍ من المؤمنين أو بأجيالٍ من المؤمنين، مقتضى الرحمة الإلهية يقتضي إيصال هذه الرحمة إلى أكبر عددٍ من البشرية وإلى أكثر عددٍ من الأجيال، بمقتضى الحكمة الإلهية وما تتحمله الأرض، ضمن معادلاتٍ وتوازناتٍ أرضيةٍ وحضاريةٍ محددة. فمقتضى أن يكون الله أرحم الراحمين هو إفاضة هذا الوجود بأكثر ما يتسع من الرحمة الإلهية.
*ظهور الهداية الإلهية بين البشر ليس مقصوراً على ما يوحي ويلهم الأشخاصَ من فعل الخير، بل يتعداه إلى ما يفيض على البيئة والمجتمع وحتى السماء والأرض، فحركة الغيوم والأمطار وحركة النجوم والكواكب لها تأثيرٌ كبيرٌ جداً في هداية البشر والأجيال، كأشخاصٍ وكـمَصيرٍ للحضارات البشرية.*
شهادة الإمام الحسين (ع) لم تكن حركةً لتنبيه المؤمنين حينذاك من المنحى الذي اتخذه حكّام الجور وغاصبو الخلافة وإفاقتهم من الضياع فحسب. غيبة الإمام المهدي المنتظر (عج) لم تكن حركةً لتفادي قتل المعصوم قبل أوانه فقط، بل هي جزءٌ من البرنامج الإلهي لإفاضة رحمةٍ إلهيةٍ أكبر وأعمّ على الكون كله، بمقدار ما تتحمله الأرض وسكانها.
*من هذا المنطلق، أي رحمة الله الكبرى والقصوى، الأحكام الشرعية ليست فقط لهداية الفرد والأفراد في المجتمع الإنساني، بل الأحكام الشرعية تجعل المجتمع البشري والأجيال البشرية قادرةً على استيعاب تلك الرحمة الإلهية.*
النظرة الشيطانية لله، بأن الأحكام الشرعية هي لإثبات الولاء لله وما يُروَّج له في أوساط العلمانيين، بعيدةٌ كل البعد عن الواقع.
*النظرة الصحيحة للأحكام الشرعية (أو: للأحكام الدينية) الفردية تكشف لنا أن فوائدها ليست محصورةً بالفرد والشخص، بل هي ناظرةٌ إلى مصلحة الأجيال والحضارات البشرية ومصير المعمورة.
فلسفة الكوارث الطبيعية والزلازل والفيضانات، بحكم أن الله خالق الكون ومدبّره وأنه جبّار السماوات والأرض، ليست بعيدةً عن هذا المفهوم.*
أساساً، لا يمكن تفسير الشرور والأمراض والعاهات عند الأشخاص إلا بمقتضى حكمة الله لإفاضة الرحمة الإلهية الكبرى على كل البشرية.
*اليوم، في ظل نظريات العولمة والقرية العالمية، تُحارَبُ الكثير من الأحكام الشرعية الفردية من قبل الدول والأمم المتحدة التي تديرها الدول العميقة، كغطاءٍ شرعي لهذا التوجه.*
على سبيل المثال، النظرة الإسلامية للمرأة، وقبلها أحكام الملل والنحل، تُحارَبُ بشدةٍ من قبل تيارات العولمة اليوم. المستحبات الدينية الفردية أصبحت اليوم مستهجنة. القيم الأخلاقية والإنسانية، في ظل تنافس البشرية وتسابقها على كماليات الحياة ورغد العيش، أصبحت مستغرَبة.
*الفارق الثقافي بين جيلنا والجيل الجديد أصبح كبيراً جداً، بل يشبه فالقاً أو وادياً سحيقاً. لم يعد بإمكاننا تفسير معتقداتنا لهم في ظل عدم التقاء المبادئ والمفاهيم والمصطلحات والتعابير.*
هذا الابتعاد عن القيم الإنسانية والفطرية في المجتمعات البشرية سيولّد إرهاباً عالمياً لا مثيل له، المجازر التي حصلت في الحروب العالمية ستبدو حوادث فردية أمام ما هو متوقع في العصر الحاضر. المجتمع البشري الأنيق والمحب للدنيا سيشاهد مجازر لم تحصل في كل تاريخ البشرية، مجازر “نظيفة” بكبسة زر، تُمحى فيها الجثث والمناظر البشعة والإنسانية معاً.
*لا يمكننا تحميل ما لا يُطاق من الأحكام الشرعية حتى على أنفسنا. نعم، الأحكام الشرعية أصبحت اليوم ثقيلةً جداً علينا بواجباتها، فكيف بمستحباتها؟
يجب إعادة النظر في كل الأحكام الشرعية والدينية على أساس أنها تُحدِّد مصير البشرية. كلما كان استمتاعنا الحلال من الدنيا أكثر، ستكون سوط الحروب الدموية والكوارث الطبيعية علينا أشدّ، فكيف بالحرام؟*
يجب تجديد النظر في مفهوم جمال المرأة وحجابها من هذا المنظور. انظروا إلى ساحل سوريا والمجازر التي حصلت هناك. انظروا إلى الدواعش، ستجدون أن دواعش أوروبا أكثر دمويةً من دواعش العرب.
*الاستمتاع بوجه الحُسن وحلق اللحية بالشفرة عند الرجال – بحسب الشريعة الإسلامية وهي من أبسط الأمور اليوم – سيرتدّ علينا، بحرماننا من بعض رحمة الله لعدم أهليتنا لها، وبحرمان الهداية لأجيال المستقبل، أو بتعقيد أوضاعنا في الأزمات العالمية.
الحربان العالميتان الأولى والثانية مرّتا على الأوروبيين بأصعب بكثير مما مرّتا على باقي الأمم. لذلك لا نستبعد هذه النظرة ولا نبسّط الأمور ونتجاهلها.*
اليوم لا يمكننا تفهيم الأجيال علل الشريعة في الكثير من الأحكام الشرعية، البسيطة منها مثل حرمة ترك الحجاب للمرأة أو حرمة التبرج والمكياج لها، وبالأمور المعقدة مثل الحدود والتعزيرات، إلا إذا نظرنا إلى مفهوم الرحمة الإلهية الكبرى والقصوى.
*فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “إقامة حد من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله”. وعنه (ص): “حد يقام في الأرض أزكى من عبادة ستين سنة”. وعن الإمام علي (عليه السلام): “لو حفظتم حدود الله سبحانه لعجَّل لكم من فضله المرجو”. وعنه (ع): “إن كنتم لا محالة متسابقين فتسابقوا إلى إقامة حدود الله، والأمر بالمعروف”.*
الأحكام الشرعية بحسب تسلسلها القيمي لها تأثير كبير على مصير البشرية اليوم في ظل الحروب القادمة، لكن بحسب الأهمية: فالأهم ثم المهم، الأحكام العامة ثم الأحكام الفردية. وأول الأحكام أهميةً هو التولي والتبري، وإرجاع الحق المهدور لثأر الله في كربلاء، والتبري من أعدائهم، ثم إقامة الحدود الشرعية، ثم الأحكام الفردية.
*لكن ما نريد قوله هنا: إن استمتاعنا من هذه الدنيا – في بلداننا المتأثرة بالثقافة الغربية أو المغتربين في الغرب وفي أوروبا – سينزل علينا من بلايا وعذاب، لأن الدنيا معادلات وتوازنات. كل قطرة عرق أو دمعة أو مَنِيٍّ أو دمٍ من الإنسان تقع ضمن معادلات كونية، وكما أن هناك رزقاً مقسوماً وسَهْماً محدوداً، كذلك الاستمتاع في الدنيا مقسومٌ ومحكومٌ بتوازنات دقيقة، تشبه التوازن النووي.*
ومن هذا المنطلق، تضحياتنا في لبنان والمحور، وتعبنا ودمعنا ودموعنا، ليست فقط من أجل العز والكرامة وما شابه، بل هي من أجل الرحمة الإلهية القصوى على البشرية، ومن أجل مصير البشرية ومستقبل الحضارة الإنسانية فيها، بحكم هذه التوازنات والمعادلات. فغداً سيوضع نصبٌ وتذكارٌ لكل شهدائنا في ميادين وساحات بلدان العالم.