الخريطة المعقدة للوصول الى الحضارة المشرقة المستدامة

الخريطة المعقدة للوصول الى الحضارة المثالية، محمد كوراني

في البدء لا يمكنني أن أتخيل في المعمورة شخصاً لا يريد الخير للبشرية، ولا يمكنني أن أتخيل أحداً على وجه الأرض لا يعتبر سعادته من سعادة الجميع، ولا يمكنني أن أتخيل في الكرة الأرضية أنّ هناك من لا يريد أن تتحول الأرض إلى الجنة، ولا يمكنني أن أتخيل بأن هناك إنسان لا يحث على السعي للوصول الى الحضارة المثالية،

نعم، ولكن قد تختلف أوصاف الخير والجنة والسعادة والحضارة، نعم قد تختلف معاييره للخير والجنة والسعادة والحضارة، قد يصل هذا الإختلاف عند البعض بأن يعتبر خير الجميع وجنتهم وسعادتهم وحضارتهم أن يكونوا كواكب يدورون حول الشمس وهو وحده محور الكون. قد يعتبر البعض أن الجنة، حلبة صراع مشوقة يكون هو المنتصر الوحيد دائماً، وقد يعتبر البعض بأن الحضارة المثالية تتحقق بالتحدي الدائم لهيمنة الخالق العظيم ولو كان ذلك خضوعاً مطلقاً للشرّ كعبدة الشيطان.

أنا لا أريد أن أتدخّل في هذه المفاهيم ولا أريد أن أحكم على الآخرين بل فقط أطلب إعادة النظر في الطريق والخريطة التي توصلنا إلى الحضارة المثالية مهما كانت أوصافه ومعاييره، شرط أن يكون العقل طريقنا إليه، ورضى الجميع خريطة للطريق إليه.

الحضارة المثالية قبل أي شيء تحتاج الى “قيادة حكيمة مثالية” لا يدخلها الانحراف والتزلزل وحتى الغيبوبة ولا الضعف والفتور، لأن الباطل لا يُنتج منه الحق والغلط لا يُنتج منه الصحيح، لكن من أين نأتي بهكذا قيادة؟ القيادة الحكيمة بحاجة لأدوات أهمها اقتصاد إنساني أخلاقي متوازن، الحضارة تقتضي حلولاً مستمرة ودائمة لطبائع البشرية المتقلبة، الحضارة تقتضي حلولاً مستحيلة للتقلبات المناخية الكبرى من النيازك المدمرة والعصر الجليدي واقتران بالشمس، وكذلك المشاكل البيئية الكبرى والمصيرية، الحضارة تقتضي إيجاد حلول لضرورة وجود اختلاف الطبقات بين البشر بحكم اختلافهم وفي نفس الوقت عدم وجود تمايز بين البشر رغم اختلافهم في الطبقات والقومية والاتينية ونسبة الذكاء والعمل والاختصاص، الحضارة تقتضي إيجاد تفسير وتعاطي معين مع السنن التاريخية والإنسانية والبشرية، الحضارة تقتضي إيجاد منظومة متكاملة من القيم، لا يحتاج حفظها وحمايتها إلى تخطي هذه المنظومة وتجاوز هذه القيم، الحضارة تقتضي الإيمان بأن الباطل لا يؤدي الى الحق والظلم لا يولد العدل والغلط لا يؤدي الى الصحيح، الحضارة تقتضي إيجاد علاج لجميع الأمراض والاسقام دون أن يؤدي الى انفجار سكاني، الحضارة تقتضي مراعاة اصل الحرية والرضا الشخصي، دون أن يتعارض ذلك مع كامل حريات الجميع، الحضارة تقتضي التحكم بسلوكيات البشرية كلها (من الداخل) دون التعرض لحرياتهم بل دون التعرض لمفهوم الاختيار، مع تحمل تبعات الشخص لاختياره، الحضارة تقتضي إيجاد حلول للحضارات المرحلية دون المساس بالمعاهدات والمواثيق والاتفاقيات المحترمة بين البشر، الحضارة يجب أن تجد حلولاً مشرفة للطبقات الفقيرة وغير الذكية والمعاقين عقلياً وجسدياً، الحضارة يجب أن تجد حلاً للأزمات غير المتوقعة، والمتوقعة الكونية، الحضارة يجب أن تحظى بأخلاقيات عالية في الحرب والقتال، قبل السلم والسلام، بحيث أن لا يُقتل الطفل الرضيع في الحروب ولا يُقطع ماء الشرب بين الجبهات، ولا تُهان وتُداس اجساد القتلى ولا تُسبى النساء والاطفال، ولا تُستخدم الخديعة والمكر والسم، ولا يُبرّر للخادع والماكر والغاصب ولا يسقط الحامل جنينها، ولا تُضرب النساء في بيوتهنّ ومحاجرهنّ وخلف أبوابهنّ، ولا تُنقض المواثيق والعهود الغليظة. الحضارة يجب ان تقدم طرحا منطقيا لأزمة التدهور الثقافي في الأنظمة و أزمة الزيف والخداع في الدموقراطية والعدالة من خلال بروز الدول العميقة المخادعة في كل دول اعلام و سيطرة العائلات الثرية والمافيات على الانظمة والمؤسسات والدول الدموقراطية ظاهرياً.

أنا لا أريد أن أفرض رأيي وأفكاري في الموضوع بل فقط أريد أن أقترح الأوصاف والمعايير التي تتعلق بالطريق والخريطة التي يجب أن توصلنا إلى الحضارة المثالية، فعلى الجميع أن يستعينوا بعقلهم لتحليل هذه الأوصاف لرسم الطريقة والخريطة ولتتّضح الرؤية ونصل إلى الهدف المنشود.

فكّروا بالهدف النهائي والغائي من الحضارة المثالية، وبين واقعنا الفردي والإجتماعي المزري، لا فرق من أي ملّة كُنت ولأيّ فرقة تُنسب ولأي دين تُدان ولأي قومية تتعلق؟ فكروا للحظة؟ لا يمكن الإنشغال بالمعيشة وترك الآخرين يفكرون محلنا، بل على كل فرد من هذا المجتمع البشري أن يفكر ويحلل هذه الأمور المصيرية، لا يمكن ترك دابة لوحدهاه، ونأمل بأن تصل الدابة المتروكة الى منزلها، ونحن منشغلون بالكد للحياة والمعيشة؟ هذه الأمور مصيرية لا يمكن تجاهلها ولا التسامح بها.

هل تحتاج الأهداف النهائية إلى أهداف مرحلية في واقعنا اليوم؟ هل تحتاج الأهداف الثابتة إلى أهداف متغيرة ومرنة للوصول الى الغاية، هل يجب أن نثق بالأهداف العملانية في طريقنا الى الأهداف المثالية؟وماذا اذا ذبنا في الاهداف المرحلية؟ هل هناك فارق بين الأهداف البشرية والعلمية في الحضارة المثالية والأهداف الإلهية والدينية؟ أيهما فيه مصلحة ومنفعة أكبر لنا في سبيل الوصول الى الحضارة المثالية؟ كيف يمكن حل جدلية قبول الواقع في كل مرحلة وفرض الواقع من أجل كل هدف؟ ماذا نختار بين عملانية الأهداف المرحلية وبين مثالية الأهداف الغائية؟ وماذا نختار بين إصالة العبودية في الدين وبين ضرورة التحرر لحصول الإيمان؟ وبين استضعاف الدين الخالد وبين استعلاء الأفكار العابرة؟ وبين تداول السنن الإلهية وثبات الوعود الإلهية؟ بين انسيابية سير الإنسان الى الرذيلة والشر والغريزة والشهوة وبين الكنز الدفين في الضمير البشري والفطرة الطاهرة النقية؟ بين الفشل وذهاب الريح عند التنازع وبين ضرورة القتال للحفاظ على الحضارة المثالية من باب التخلية قبل التحلية؟ وبين فشل جميع المحاولات الفاشلة للوصول الى الحضارة، وبين عدم استحالة تحقق أمر جديد في آخر الزمان؟ كيف نوفق بين الهدف الفردي والهدف الجماعي في الحضارة، هل يمكن تحقيق الغلبة والنصر في سبيل الحضارة المثالية بالفئة القليلة أو لابد من الفئة الكبيرة؟ وهل يمكن تحقيق الغلبة والنصر فقط بالقدرات المادية أو يمكن أن يحصل ذلك بالقدرات المعنوية والصبر والمثابرة؟ كيف نوفق بين مفهوم تداول السلطة وخلافة الأرض للبشرية في حضارته المثالية؟ وبين الفتح على أرض الواقع في ظل العولمة والفتح في السماء ؟ وبين نيل الهدف بالسعي والجهد والتعب ونيلها بالفضل الإلهي؟ وبين عبثية الانتصارات المرحلية أمام النصر النهائي المجهول؟ وبين كمال الدين بتبديل جميع القوة بين البشر إلى نهاية الفعل الممكن؟ كيف نوفق بين المعادلات الإجتماعية البشرية والمعادلات الغيبية المجهولة؟ وبين الحاجة الى المقدمات والممهدات وبين علم الله بالزمن المناسب؟ وبين نسبة المدة في النصر وطبيعية تداول السلطة وتغيير الظروف؟ وبين مثالية مفاهيم عيال الله، أولياء الله، تسديد الله وأدوات المادية للنصر وتهيئة الاسباب الإلهية؟ وبين دونية الإنتقام والثأر ورفعتها لأن نصر الله في نصر عباده؟ وبين تاريخية صراع الحق والباطل وبين غلبة أحدهما على الآخر في نهاية المطاف؟ وكيف نوفق بين دفاعية الهجوم على الباطل وهجومية دفاع الباطل عن نفسه، وبين سلمية القضاء على الظالم وبين همجية دفاع الظالم عن نفسه؟ كيف نوفق بين عدم مثالية الخطوات والمقدمات وبين مثالية النتائج العامة؟ بين أن الحق لا يحصل إلا بالحق وبين غياب الحق من بيننا جميعاً؟ وبين شمولية المنظومة الفكرية للحق والباطل وبين عبثية إجتزاء القيم؟ وبين اختلاف سيرة أولياء الله مع بعضها، وتمايز المصير في آخرهم؟ وبين عبقرية القيادة في المواقف الحاسمة، وتقديم تنازلات في المواقف الأخلاقية وعدم حسم الأمور؟ بين ثبات الإيمان بالنصر والحق والتكتيك ببرودة الأعصاب؟ بين احترام الاتفاقيات والمواثيق والعقود والعلاقات السابقة وشروط المواطنة والتحرر من جميع القيود للوصول الى الحضارة المثالية؟ بين سَكينة وطمأنينة العالم وثبات وإصرار الجاهل المغبون وتعجرف وعنجهية الحاقد واللئيم؟ بين ضرورة “إذا قاموا” واحتمالية الصدفة في “فوجدوا عبداً”؟ بين استمرارية وجود الظالمين بسنة الاستدراج وحتمية نهاية كل ظالم ولو باستبداله بآخر؟ كيف نوفق بين ضرورة تراكم التضحيات للوصول الى النتيجة وبين “القشة التي قسمت ظهر البعير” في التخلص من بعض العوائق في طريقنا الى الحضارة المثالية؟ بين وعد الله بالبلاء والخوف والجوع والنقص في الأموال والثمرات وبين البشارة للصابرين؟ بين الاستقامة وضرورة الكفاح في سبيل الحصول على النتيجة المرجوة وبين الوعود الإلهيّة بالنصر؟ بين حرية الاختيار والمثالية في ردود الفعل؟

نعم هذه مفاهيم مصيرية، لا أطلب منكم أن تتبنوا توصيفاً معيناً لهذه المفاهيم، بل كل ما اطلبه منكم هو التمعّن والتدقيق في هذه المفاهيم والمعايير وتحليلها، فبمجرد أن يقوم البشر بالتفكير بهذه الأمور وبهذا الطريق، نكون قطعنا شوطاً كبيراً في رسم خارطة الطريق للوصول الى الحضارة المثالية؟

النتيجة أن في الواقع مهما كبر شأننا فليس بإمكاننا التخطيط لصناعة الحضارة المثالية وهذا يظهر جليّاً عند إنهيار الاقتصاديات العالمية الكبرى، عند أول هبة ريح على سبيل المثال، أنظروا الى شعار “الحلم الأمريكي”، أين كانت وأين أصبحت؟ آمنوا بعجز الإنسان عن معرفة بعض الأمور الماورائية المؤثرة، لتفتح إلينا أبواب الإستعانة بمن لديه المعرفة ،آمنوا بعجزنا عن تحقيق بعض الأمور الكبرى بالطرق التقليدية العقيمة، لتنفجر قدراتهم الهائلة في تحقيق هذه الأمور بإنسيابية عالية بطرقها غير المألوفة، آمنوا بعجزنا عن تغيير بعض السنن التاريخية والاجتماعية والبشرية، لينبعث شعاع نور يخرق هذا العجز في ظل التفكير والتمعن ويُرشدنا إلى الحضارة المثالية.

روابط إضافية

مقالات إضافية

كيف عوّض الغرب حرمانه من…

كيف عوّض الغرب حرمانه من الروحانية وسقوطه في الماديّة القاتلة – د.…

كفى قوانين لا تنفذ الا…

من كتاب خصائص الحضارة المشرقة المستدامة القادمة، محمد كوراني كفى قوانين لا…

القانون والشريعة والدين في الحضارة…

من كتاب الحضارة المشرقة المستدامة القادمة – محمد كوراني القانون والشريعة والدين…

مقالات إضافية

كيف عوّض الغرب حرمانه من…

كيف عوّض الغرب حرمانه من الروحانية وسقوطه في الماديّة القاتلة – د.…

كفى قوانين لا تنفذ الا…

من كتاب خصائص الحضارة المشرقة المستدامة القادمة، محمد كوراني كفى قوانين لا…

القانون والشريعة والدين في الحضارة…

من كتاب الحضارة المشرقة المستدامة القادمة – محمد كوراني القانون والشريعة والدين…